النّصائح كلمات عابرة، تعبر الأذن لأنّها غالباً تأتي بشكل مجّاني، والمجاني يكون دائماً لا قيمة له، فالذي "يأتي ببلاش يذهب ببلاش"! ولكن من النّصائح ما ينزل عليك كالمطر وقت القحط والجفاف، أو كالدفء في زمهرير الشتاء، لذا تحتفل بها وتفرح، وتضمّها إلى رأسك بكلّ حنان واحتفاء وسرور. لقد نصحني الصّديق الباحث المعروف الدكتور أبوفاطمة عمر عبدالله كامل، نصحني بهجر قراءة الصحف في رمضان، معللاً ذلك بقوله: "إنّها تفسد الصّيام، نظراً لكثرة الكذب الذي تضمّه بين صفحاتها.."!! لهذا أخذ - صاحب السّطور- على نفسه ألا يقرأ الصحف في هذا الشّهر الكريم، أولاً حفاظاً على الصّيام من الفساد، وثانياً لاستغلال الوقت فيما هو أجدى وأنقى وأبقى وأتقى، وثالثاً طاعة للصّديق الذي خصّني بهذه النّصيحة!! ولكن هذه الصُّحف، وتلك المجلّات، لم تكن بمنأى عن لظى الفتوى، ولم تسلم من تحرّش المفتين بها! فهذا ينعت صحيفة "الشّرق الأوسط" ب"خضراء الدّمن"، وذاك يحقّر الصّحف مجتمعة دون تمييز، وثالث يذهب أبعد من ذلك "بتحريم" بيعها وشرائها وإصدارها و.. و..! وحتّى لا يكون الكلام في صحراء الظّنون، على متن الرّجم بالغيب، سيعرض القلم نماذجَ من تلك الفتاوى، مع الاعتذار للقارئ عن ذكر أصحابها ومصدريها، لأنّ ما يهمّ هنا هو الفكرة ومضمونها، وليس صاحبها ومنتجها! ذكر الشّيخ خليل عبدالكريم في كتابه "الأسس الفكريّة لليسار الإسلامي" ص14 ما يلي: (أصدر فضيلة الشيخ ....... عضو الإفتاء بالرّئاسة العامّة لإدارة البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد فتوى تحرّم التّعامل مع صحيفة.....، أو تشجيعها أو تمكينها أو اقتنائها أو شرائها، أو توزيعها.. وختم الفتوى بقوله: ".. وأشير على كلّ ناصح للإسلام أن يتجنّب المساهمة فيها أو النّشر فيها..") انتهى. وفي كتاب "المنتقى من فتاوى فضيلة الشّيخ صالح بن فوزان الفوزان" -الجزء الأوّل- ص91، ورد السّؤال التّالي: (ما حكم الأكل والشّرب على الصّحف اليوميّة، وفيمن اتّخذها سفرة لطعامه مع ما فيها من الآيات القرآنيّة والأحاديث الشّريفة؟" وكان المجيب -أحد أعضاء هيئة كبار العلماء- على النّحو التّالي: "إذا رأيت في الجريدة شيئًا من الآيات، أو من أسماء الله سبحانه وتعالى فانزعْ هذا منها واحرقْه، أو أدفنْه، أو ارفعْه في مكان طاهر، ثمّ استعملْ الصّحيفة، وإذا كانت الصّحيفة خالية من الآيات والأحاديث، ومن ذكر الله عزّ وجلّ، فلا مانع من استعمالها و"امتهانها" والأكل عليها")!! انتهى. وللقارئ أن يضع خطًّا تحت كلمة "امتهانها"، ولن يفوّت القارئ أن اسم المُفتي الثّلاثي -المنتج لهذه الفتوى- ليس في اسمه من أسماء الجلالة شيء، لذا فللقارئ الحريّة المطلقة في "امتهان" اسمه، خاصّة وأنّ هذا الشّيخ لا تكاد تخلو صحيفة – في هذه الأيّام – من أحد ردوده أو مشاركاته! وما زالت الفتاوى تصبُّ في خانة "امتهان" الصّحف، فقد ذكر صاحب كتاب "فتاوى علماء البلد الحرام" في ص1622 الفتوى التّالية من خلال السّؤال "هل يجوز استخدام الصحف كسفرة للأكل عليها؟ وإذا كان ذلك لا يجوز، فما العمل فيها بعد قراءتها؟" وجاء الجواب متنزّلاً من أعلى سلطة دينيّة في المملكة- آنذاك -على النّحو التّالي: (لا يجوز استعمال الصحف سفرة للأكل عليها، ولا جعلها ملفًّا للحوائج، ولا "امتهانها" بسائر أنواع الامتهان، وإذا كان فيها شيء من الآيات القرآنيّة، أو من ذكر الله عزّ وجلّ، فالواجب إذا كان الحال ما ذكرنا حفظها في محل مناسب، أو حرقها، أو دفنها في أرض طيبة)!