قد يكون من المبكر الدخول في بحث مستفيض ومتعدد الأوجه حول تحديد ملامح وآفاق ثورة الشارع العربي أو كما يفضل بعضهم تسميتها بالانتفاضة الشعبية، فالحدث لم يكتمل نضوجه ولا يزال في بدايته الفتية، إلا أن ذلك لا ينفي عنه الخصائص المرتبطة بطبيعته وواقعه بأنه يشكل منعطفاً محورياً لا يقل شأناً وتأثيراً عن الحراك الكبير الذي شهده الوطن العربي بعد الحرب العالمية الأولى في مواجهة وانتفاض شعوبه وبلدانه ضد الاستعمار وإسقاط سطوته وهيمنته. وبذلك تصح النظرة إلى أن حراك هذا الربيع العربي في مواجهة أنظمة الاستبداد يأتي ضمن سياق التطور التاريخي العام للعالم العربي المعاصر الذي يكتسب يوماً بعد يوم توسعاً وثباتاً وإصراراً نحو الحرية والكرامة والتنمية وإرساء قواعد الحكم الصالح. وتتجلى قيمة هذه الاحتجاجات الذاتية بأن أصداءها تتردد في أرجاء كل المنطقة والعالم، بعدما نجح المحتجون في فرض معادلة جديدة ضمن المشهد السياسي العربي لا يمكن أحداً القفز فوقه وهو وجود المعارضة بكل أطيافها بعد أن كان النظام في كثير من الأقطار العربية هو اللاعب الأوحد. هذه المعادلة الجديدة لم تولد من عدم بل من صميم النضال الشعبي الذي أثبت أن الشارع العربي لم يعد يذعن لرهبة القمع، وأن ثقته بذاته تتزايد يوماً بعد يوماً على رغم كل الآلام والتضحيات التي تزيده قوة ومناعة ومقدرة على الإطاحة بالديكتاتورية. وبعيداً من المعارك الميدانية لشباب الثورة أو الانتفاضة، هناك تحديات تهدد الربيع العربي كمشروع إنساني نهضوي لا تقل خطورة عن أساليب قمع أنظمة الاستبداد، وهذه الأخطار تتلخص بعوامل التخلف والانقسام والضعف النابعة من واقع صراعات المنطقة المحيطة بالعالم العربي وهي منطقة أراد المستعمر إبقاءها ضعيفة ومفككة ومتخلفة وفي نزاع دائم كي يسهل السيطرة وفرض السطوة عليها، ما يدفعنا إلى القول بأن لا يكفي أبداً أن يقتصر تركيز الثورات العربية على إسقاط الأنظمة الديكتاتورية وتحرير الإنسان من القمع والظلم وحسب، بل المطلوب أيضاً من هذه الثورات ألا تكون غافلة أو على هامش قضايا المنطقة وصراعاتها والتي تتقاطع مع المصالح السياسية والاقتصادية الاستراتيجية إقليمياً ودولياً. فما يجب أخذه في الاعتبار هو أن هذه المنطقة لا يمكن العالم العربي الذي هو جزء لا يتجزأ من جغرافيتها وتاريخها القديم والمعاصر أن تبقى في حال انعدام وزن وتجاذب مع شعوبها، ما يستدعي من شباب الثورة العربية البحث عن صيغة جديدة تكسر كل العوائق التقليدية من أجل إرساء حوار جدي وعميق مبني على المصالح المشتركة والمتبادلة مع قوميات شعوب المنطقة غير العربية، من فارسية وتركية وكردية، يؤدي إلى وقف الصراعات العبثية وبلورة قواسم ومصالح مشتركة كمنطلق لإرساء الاستقرار الذي يبقى الأساس لأي تنمية بشرية واقتصادية وبيئية. إن الحوار الاستراتيجي بين شعوب المنطقة بهدف حماية أمنها واستقرارها وثرواتها يجب أن يكون من أولويات مسار الربيع العربي كي يتسنى للعرب استعادة موقعهم إلى طاولات المفاوضات والتسويات التي تحدد مستقبل هذه المنطقة. وبصرف النظر عن عمق العلاقات التي تربط بعض الكيانات العربية ببعض الدول الغربية، وهي علاقات مطلوبة لترسيخ مسار الحريات والديموقراطية في المجتمعات العربية إلا أنه لا يجوز الاستمرار في أن تكون هذه العلاقات العربية – الغربية مصدراً لتضارب المصالح وزرع عوامل الانشقاق بين العرب كشعوب ودول مع بقية مكونات شعوب المنطقة. فقد أثبتت التجارب أن فائض القوة والاستعانة بالأجنبي لا يحميان الاستقرار ولا يبنيان مصالح مشتركة بل يؤديان إلى الحساسيات والنعرات وتأجيج العصبيات الدينية والمذهبية بين شعوب المنطقة التي لا يمكنها أن تضع حداً لخلافاتها، إلا من خلال حوار يرتكز على المكون القومي لشعوب المنطقة، كي يكون هذا الحوار قادراً على تذويب التطرف والأنانية القُطرية، وبوتقة التناقضات والحساسيات الدينية والمذهبية والإثنية ضمن إطار جامع يجعل من التعدد والتنوع الديني والثقافي مصدراً لإغناء الوحدة ضمن قوالب وأطر الدولة المدنية العصرية. أخيراً، ما تحقق حتى الآن على صعيد الثورات العربية من إنجازات تتلاقى مع كرامة هذه الأمة وحريتها وعزتها، يدفع بنا إلى عقد التفاؤل والآمال بأن يكون للعرب وانطلاقاً من حجمهم الديموغرافي والسياسي والاقتصادي والجغرافي الكبير الدور القيادي والنهضوي في بناء مسار جديد في علاقات شعوب المنطقة عنوانه الحوار والتفاهم والتكامل.