ودّع التونسيون مدفع رمضان، ومعه ودعوا أحد أبرز ملامح الشهر الكريم. إذّ تعود التونسيون أن يفطروا ويمسكوا على صوت «المدفع» في كل المدن والقرى من دون استثناء، لكنّ الأمر تغيّر منذ العام الماضي حين أصيب مهندس في مدينة صفاقس في اليوم الأول لرمضان وهو يستعد لتشغيل مدفع قديم ما تسبب في وفاته، ما دفع بالحكومة وقتها الى منع إطلاق «المدفع». وبعيداً من الظروف التي أدت إلى الحادث، الذي ينطبق عليه عامل «قضاء وقدر»، كان لدوي صوت المدفع وقع خاص في نفوس الكبار والصغار على حد سواء. وخلّف غيابه في النفوس فراغاً، إذ يفتقد الجميع هذا الشكل الاحتفالي الذي لم يكن يقتصر إطلاقه على إعلان الإفطار والإمساك، بل يتعداه إلى «إعلان انطلاق الشهر ونهايته بعديد الطلقات الاحتفالية». وفي ما عدا ذلك، بقيت بعض العادات الأخرى، تؤثث ليالي رمضان وفي شكل خاص «بوطبيلة» أو المسحراتي الذي يجوب الأنهج والأزقة والأحياء بطبله معلناً موعد السحور، ولم يؤثّر التطور التكنولوجي ولا وسائل الاتصال الحديثة في دور «بوطبيلة» ومكانته في قلوب الناس الفقراء والأغنياء، الجميع يطرب لسماع نقرات الطبل معلناً موعد السحور، ولا تزال للإفطار طقوس خاصة لدى العائلة التونسية اذ يحرص أفرادها على الالتقاء حول المائدة. وحتى لو فرقتهم الحياة في الأيام العادية فإنّ رمضان يقرب الجميع، وتصبح المنازل ساعة الإفطار خليّة نحل، حركة متواصلة وأحاديث عن الشهر الكريم وعن الأكل وأنواعه وأصنافه، وعن الدين والحكمة من الصيام، وعادة ما يلتف كل أفراد العائلة حول طاولة واحدة، ما يضفي أجواء حميمية على الإفطار. الإفطار في العائلة التونسية، وبعد قرون، حافظ على عديد المميّزات والتي أهمّها «البريك» وهي أكلة تونسية شهيرة جداً لا تخلو منها مائدة رمضان، وتصنع من غشاء رقيق مصنوع من الدقيق يحيط بحشوة. أشهر الأنواع هو البريك بالبيض، اذ تحشر بيضة كاملة في عجينة مثلثة الشكل أو على شكل نصف دائرة مع بصل مقطع وبقدونس وبطاطس مسلوقة تضاف إليها التونة. كما يكثر طبخ الكسكسي التونسي خلال أيام رمضان فضلاً عن أنواع السلطات التونسية المتنوعة كسلطة الخضر والسلطة المشوية المصنوعة أساساً من الفلفل الحار المشوي تضاف إليه الطماطم المشوية أيضاً وبعض البهارات والتوابل. أمّا في السهرات فعادة ما تُصنع «البوزة» وتتكون أساساً من الحليب والسكّر والنشاء واللوز. ولعلّ أكثر ما يجمع التونسيين خلال الشهر الفضيل، نوعان من الحلويات اشتهرا في شكل كبير وانتشرا على كامل تراب البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، وهما «الزلابية» و «المخارق» اللتان تتكونان أساساً من الدقيق والسمن والعسل أو السكر. واشتهرت مدينة باجة في الشمال الغربي بصنع «المخارق» من السمن الخالص والعسل الأصلي، ويسافر كثيرون من التونسيين إلى مدينة باجة لاقتناء هذه الحلويات ذات النكهة الخاصة والتي يتّسم بها شهر رمضان دون غيره من الأشهر، كما يكثر الإقبال على «مقروض» القيروان الذي يعرف في كل العالم بجودته ونكهته الطيّبة بخاصة المصنوع بزيت الزيتون. ولدى كثيرين من التونسيين لشهر رمضان مكانة خاصة، فهو الشهر الجامع لشمل العائلة وهو شهر البركة والخير وشهر التراحم والتكافل، ويقول الحاج علي ذو الثمانين عاماً: «كل شيء يمكن أن يتغيّر إلاّ رمضان، يجب أن يبقى كما هو، يجمعنا على المحبة والتواصل الأسري، لقد عشت ثمانين عاماً شهدت فيها الشهر الكريم في ظروف متنوعة ولكنه حافظ دائماً على خصوصياته الجميلة، فهو فعلاً شهر الخير والبركة». وتكثر الزيارات العائلية في هذا الشهر ويحرص كثيرون على القيام بمراسم الخطبة فيه وتحديداً ليلة السابع والعشرين منه، كما يحرص كثيرون على عقد قرانهم في الليلة ذاتها تبرّكاً بها. وتشهد الجوامع والمساجد كثافة في حضور العائلات خلال صلاة التراويح، إذ يصحب الأب زوجته وأبناءه لأداء صلاة العشاء والتراويح جماعة. كما يتزايد الإقبال على المقاهي وعلى السهرات التي تؤمنها مهرجانات المدينة. وتتكثّف جهود التضامن مع الفقراء والمعوزين فلا يبيت تونسيّ واحد من دون عشاء، وتنشط الجمعيات التي تُعنى بتأمين ما يكفي تلك العائلات على امتداد الشهر. وتضافرت الجهود هذا العام، لأن الأمر لم يعد يتعلّق فقط بالتونسيين بل بعشرات الآلاف من الليبيين الذين لاذوا بتونس من الاضطرابات في بلدهم.