عندما أبطل الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون التغطية الذهبية للدولار قبل 40 سنة، تداعت الضوابط الاقتصادية التي أقرتها معاهدات «بريتون وودز» بعد الحرب العالمية الثانية لتفادي تكرار الكساد الكبير عام 1929 وما تلاه من مآس في الولاياتالمتحدة وسائر العالم. وسرعان ما تطفَّل الدولار على العملات المحلية في بلدانها، وتحول الاقتصاد الأميركي في شكل جذري من اقتصاد مصدّر إلى اقتصاد يعتمد على الاستيراد. ويقدِّر خبراء أن الاقتصاد الأميركي يشمل التزامات مالية تفوق قيمتها 61 تريليون دولار، لكنها في غالبيتها الساحقة غير ممولة، ما يجعل الولاياتالمتحدة البلاد الأكثر مديونية في العالم ويزيد اعتمادها على تدابير مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي (المصرف المركزي). وجاء الإنفاق الضخم في عهد الرئيس الحالي باراك أوباما ليرهق كاهل الأميركيين من ذوي المداخيل الأدنى. يريد أوباما الديموقراطي أن يحذو حذو نيكسون الجمهوري من خلال طبع كميات من الدولارات تكفي لتعويم الاقتصاد الأميركي وإبعاد شبح الركود عنه، ويبدو أن العواقب الوخيمة ستكون ذاتها: تضخم متفاقم ينتهي إلى ركود، إثر فقدان الدولار الكثير من قوته. وكما قلصت سياسات نيكسون قيمة الدولار، ما أفضى إلى مشكلات اقتصادية أواخر السبعينات، يريد أوباما فعل الشيء ذاته. تنفق الولاياتالمتحدة منذ عقود أكثر بكثير مما تحققه من مال، مستعينة باستدانة ضخمة، ولكن في السنوات الثلاث الماضية، اتسعت هذه الممارسة، ليسجل العجز تريليونات الدولارات. وإذ يرفض الدائنون استرداد أموالهم من الولاياتالمتحدة بدولارات أكثر تضخماً وأقل قيمة، يعمد مجلس الاحتياط إلى تسديد العجز بضخ دولارات إضافية في شرايين الاقتصاد. وتقل قيمة الدولارات التي يتداولها الأميركيون، بل إن خبراء اقتصاديين يشبّهون القيمة التي يخسرها كل دولار بضريبة حكومية ترهق كاهل الأميركيين، خصوصاً الأقل ثراء. وعلى رغم السلطة والأدوات التي يملكها مجلس الاحتياط، يعتقد خبراء اقتصاديون كثيرون، أن الولاياتالمتحدة استدانت مبالغ لن تستطيع يوماً تسديدها، ويرون أن خفض التصنيف الائتماني للبلاد من قِبَل وكالة «ستاندرد أند بورز» للمرة الأولى من المرتبة AAA الفضلى إلى AA+ التالية، عبارة عن تحذير من أن الآتي أعظم، حتى مع محافظة وكالتي التصنيف الرئيستين الأخريين، «موديز» و «فيتش» على المرتبة الفضلى للولايات المتحدة، ومع تأكيد واشنطن أن «ستاندرد أند بورز» أخطأت في احتساب التخفيضات المقررة في عجز الموازنة الأميركية. وفيما يصر مجلس الاحتياط على أن معدل التضخم منخفض أو شبه معدوم، يرى خبراء اقتصاديون كثيرون أن هذا يصح فقط على الأميركيين الأكثر ثراء، ويرون أن المعدل لو احتُسب وفقاً للظروف الاقتصادية التي كانت سائدة في عهد نيكسون، لما قلّ عن 8.9 في المئة. وبدأ الأميركيون العاديون يشْكُون فعلاً من الارتفاع المستمر لأسعار الأغذية والمحروقات. هي «ضريبة» محسومة -وفقاً للخبراء- من كل دولار، بسبب الإنفاق الحكومي المفرط والطباعة المفرطة للعملة، وهي «ضريبة» يدفعها الأميركيون الأقل ثراء. وإذ برر نيكسون قراره فك ارتباط الدولار بالذهب ببروز عجز في ميزان المدفوعات وآخر في الميزان التجاري، وذلك للمرة الأولى في القرن العشرين، بسبب التكاليف الضخمة لحرب فيتنام آنذاك، تبدو حروب أوباما، ومنها ما ورثه عن سلفه جورج دبليو بوش في العراق وأفغانستان، ومنها ما خاضه هو، كحرب ليبيا، من الأسباب الأساسية لتكراره السياسات الاقتصادية لنيكسون. وليست حزمتا الإنقاذ الضخمتان اللتان أقرهما بوش الابن وأوباما لمساعدة مؤسسات مالية عملاقة على تجنب الإفلاس في خضم أزمة المال والركود الأخيرين، بريئتين من دم عجز الموازنة المتفاقم، وبالتالي من تراكم الديون. ويُنحي خبراء اقتصاديون كثيرون باللائمة في أزمة الديون أيضاً على التخفيضات الضريبية التي أقرها بوش الابن لمصلحة الشركات الكبرى والأثرياء، والتي لم يتمكن أوباما من الرجوع عنها، إلى جانب برنامج الرعاية الصحية العملاق والباهظ التكلفة الذي أطلقه أوباما. ولأن غالبية عملات العالم مرتبطة بالدولار، بما فيها تلك التي تدّعي أنها مغطاة بالذهب، لا شك في أن الآلام الاقتصادية الأميركية ستنتاب بلداناً أخرى. ولو خُفِّض التصنيف الائتماني الأميركي أكثر، ستزيد كلفة خدمة الديون الأميركية على الأميركيين، إذ ستقل قيمة المال الذي في أيديهم. وفي بلدان العالم الأخرى، ستتراجع الاستثمارات الأجنبية والمساعدات الإنسانية، وستترنح العملات الرئيسة وغيرها.