رب محاكمة خير من ألف مسلسل في نهار رمضان! ورب متابعة جلسات أكثر إثارة من عشرات برامج الحوارات مع الفنانين والقيل والقال! ورب تحليل نفسي وعصبي للمتهمين أعمق أثراً من فوازير انتهى عمرها الافتراضي منذ عشرات السنين. رمضان التلفزيوني المصري أتى هذه السنة بما لم يتوقعه «أمراء» المسلسلات وجهابذة حوارات الفنانين. صحيح أن القنوات عامرة بالوجبات الرمضانية التقليدية من دراما وفنانين ومسابقات، غير أن الأوضاع الراهنة في مصر والعالم العربي فرضت نفسها بقوة على المشهد. المشهد الأكثر وضوحاً في تأثره بالثورة يظهر في برامج الحوار، خصوصاً في حوارات الفنانين. إذ جرى العرف الرمضاني أن يكون الغرض الرئيس من استضافة الفنان في هذا الشهر الكريم هو عرض دموعه المنهمرة أمام الكاميرا بعد انتزاع اعتراف فتاك منه. صحيح أن عملية نزع الاعترافات ما زالت السمة الغالبة في مثل تلك البرامج، لكن الغالبية المطلقة منها تلونت بلون الثورة وقوائمها، الأسود منها والأبيض، والرمادي «الكنبوي» كذلك. ويبدو أنه سيتحتم على صناع تلك البرامج أن يشكروا الثورة المصرية التي أمدتهم هذا الموسم بنكهة شديدة التفرد لصناعتهم. «هل صحيح أنك خرجت في تظاهرة لتأييد النظام السابق؟»، «ماحصلش!». «هل سبق وجمعتك المصادفة بزوجة الرئيس سوزان مبارك وعبّرت لها عن امتنانك بأنشطتها ودعمها لوضع المرأة؟»، «كان موقفي زي كل من كان موجوداً! يعني هل كان المطلوب أن أخلع حذائي وأدك رأسها؟». «سؤالي هو حصل ولا ماحصلش؟»، «إ إ إ حصل بس ليس كما...»! ويرتفع صوت الصياد بطريقة درامية، «هل بكيت بالدموع في مكالمة هاتفية مع التلفزيون الرسمي وأنت تتهمين الثوار بالبلطجة؟»، «أنا أنا كنت أعتقد كما اعتقد غيري أنهم بلطجية!». ويبدو صوتها يختنق وهي تقاوم البكاء، ما يعني أن المذيع بات قاب قوسين أو أدنى من الهدف! «أنت متهمة بمعاداة الثورة والمشاركة ضمنياً في تشويه سمعة الثوار و...». وهنا تدق موسيقى البرنامج التصويرية العسكرية الداعية إلى التوتر والترقب وتقفز الكاميرا لتكاد تلتصق بوجه الفنانة وهي تبكي بكاء مريراً وتقسم أنها وطنية وتحب هذا البلد، محاولة نفي تهمة معاداة الثورة عن نفسها. الركوب التلفزيوني لموجة الثورة يعني أن الحلقة التي تحوي ضيفاً فناناً منتمياً إلى القائمة البيضاء تكون بمثابة حفلة تكريم للفنان، في حين تتحول حلقة الضيف الآتي من القائمة السوداء إلى محاكمة علنية لإثبات التهمة! تهم التآمر ضد الثورات العربية، وإرهاصات الثورات وتوابعها، وردود فعل الحكام، وتصريحاتهم، ورد الشعوب عليهم بالشعارات انعكست كذلك على أسماء البرامج وكثير من المواد الفيلمية والفنية التي جُهزت كفواصل بين البرامج. فهناك، مثلاً، برنامج «الشعب يريد» الذي يقدمه طوني خليفة، و «مطلوب رئيس» الذي يقدمه الممثل هشام إسماعيل، و «أنا الرئيس» ويقدمه محمد عبدالفتاح، و «من أنتم؟» للفنانة بسمة (المصنفة في القوائم البيض المؤيدة للثورة المصرية)، وغيرها. وعلى رغم مرور أيام قليلة فقط على بدء الشهر الكريم، إلا أن بطلي القائمتين السوداء والبيضاء الفنيتين هما بلا منازع الفنانان طلعت زكريا الذي لم يجد غضاضة كما يبدو في الظهور في عشرات البرامج، تارة محاولاً تبرئة نفسه من تهمة معاداة الثورة، وتارة أخرى – في حال ووجِه بتصريحات سابقة له بالصوت والصورة – بالتأكيد أن «التعبير خانه» أو «أنه كان واقعاً تحت تأثير الإعلام المضلل»، إلا أن ما يحسب له، مجاهرته بحبه للرئيس المخلوع وشعوره بأنه بريء مما ينسب إليه من تهم تماماً، لأنه ببساطة كان مغيّباً عما يحدث في مصر طيلة السنوات العشر الماضية! والثاني هو الفنان عمرو واكد الثائر الذي لم يبرح ميدان التحرير طيلة أيام الثورة، وبات مصنفاً تحت بند الضيوف السياسيين. ودفع موسم رمضان هذا العام عدداً من الوجوه الجديدة إلى شاشة التلفزيون، وهي الوجوه التي ولدت من رحم الثورة. فهناك مثلاً باسم يوسف المولود من رحمين، أحدهما انتقاد النظام الساقط والثاني رحم الإنترنت، وتحديداً موقع «يوتيوب»، خصوصاً ان يوسف خرج من عتمة ال «يوتيوب» إذ دأب على تقديم «توك شو» ملاكي، أي بوازع شخصي منه للسخرية اللاذعة من تغطية التلفزيون الرسمي للثورة، ومن الفنانين الذين طبّلوا وزمروا للنظام، وغيرها من الأفكار التي حازت إقبالاً منقطع النظير من متصفحي الشبكة العنكبوتية. ويأتي رمضان هذه السنة ليوسع يوسف من قاعدة مشاهديه ويقدم برنامج «البرنامج» عبر شاشة «أون تي في». وإذا كانت حفنة من المسلسلات المعروضة نجحت في اللحاق بركب الثورة وتضمين الحوار بعض الجمل ذات الطابع المواكب للأجواء الثورية، فإن الفواصل الفيلمية التي يستخدمها بعض القنوات بين البرامج على سبيل الترفيه الثقافي اصطبغت بألوان ميدان التحرير بالكامل. وبدلاً من التأريخ السريع لحرفة يدوية مندثرة، أو مسجد تاريخي شهير، بات التأريخ ثورياً بحتاً لميدان التحرير في القاهرة، والأربعين في السويس، والقائد إبراهيم في الإسكندرية. حتى إعلانات رمضان المعتادة التي تصيب الجميع بتخمة مشاهدة وعسر هضم متابعة لفرط الدهون والزيوت واللحوم التي تتنافس على الإعلان عليها شركات السلع الغذائية تقلصت إلى حد كبير، وواكب صنّاع الإعلانات والشركات المعلنة الروح الثورية. فهذه شركة اتصالات تشكر الثوار الذين قادوا البلاد إلى مصر جديدة، وتلك شركة مشروبات غازية تؤكد أن مصر الآن بحاجة إلى رجالها، وأن عليهم أن يشربوا منتجها الذي هو عنوان الرجولة، لأن الرجولة ليست سهلة. وتبقى متابعة جلسات المحاكمة العلنية للرئيس المخلوع ونجليه وعدد من رموز نظامه السمة التلفزيونية الأبرز في رمضان 2011. فمن كان يتخيل أن تلتف العائلات وجموع المواطنين في نهار رمضان لمتابعة وقائع المحاكمة التي تستحوذ على اهتمام العالم أجمع؟ ومن كان يصدق أن تنتظر جموع الصائمين مدفع الإفطار لتتابع تحليلات خبراء السياسة وأطباء النفس ومحللي الاقتصاد لما جرى نهاراً في المحكمة؟ إنه حقاً رمضان بنكهة الثورة وطعم التحرير ورائحة مصر الجديدة!