قبل شهور، حين أصدر الزميل غسان شربل كتابه اللافت، والذي حقق نجاحاً سريعاً، «الصندوق الأسود»، بدأ مهتمون بموضوع الكتاب، وبالمسألة التلفزيونية في الوقت نفسه، مساع، لدى كثير من محطات التلفزيون لإقناعها بأهمية - وفائدة - أن تحول فصول الكتاب كله، أو جزءاً منها على الأقل الى عمل تلفزيوني... غير أن أياً من المحطات لم تبد اهتماماً فعلياً، بمشروع كانت آفاق نجاحه واضحة وقدرته على إحداث تغيير في روتينية الإنتاج التلفزيوني العربي، أكثر من مؤكدة. بسرعة جاء الجواب: لا نستطيع، إما لأسباب سياسية أو لأسباب مالية وإما من دون أن تكون هناك أسباب على الإطلاق. اليوم، من المؤكد أن الأخبار الآتية من فرنسا، ستجعل عدداً من الذين فوتحوا بالأمر وتنصلوا، يعضون أصابعهم ندماً. فالأخبار تقول إن المخرج الفرنسي - والناقد من أصل مصري - أوليفييه السايس، ينجز اللمسات الأخيرة على تصوير مسلسل تلفزيوني جديد، يدور في ثلاث حلقات عنوانه «ايليتش - حكاية كارلوس». والمسلسل كما يدل العنوان يتحدث عن «الإرهابي» ايليتش راميرز سانشيز، المعروف طبعاً باسم كارلوس، والذي يقبع منذ سنوات في أقبية السجون الفرنسية، بعد أن «دوخ» العالم بعمليات نفذها وصممها باسم القضية الفلسطينية. وللذين لم يدركوا بعد العلاقة بالفقرة التي افتتحنا بها هذا الكلام، وهذا الخبر الآتي من فرنسا، نذكّر بأن كتاب «الصندوق الأسود» يتحدث في واحد من فصوله الكثيرة والأساسية عن «كارلوس» ومعه، إنما من وجهة نظر عربية تطبق ذلك القول الفرنسي الذي صار مأثوراً: الشخص الذي تراه أنت إرهابياً، قد يكون في نظر البعض الآخر بطل تحرير. إذاً، هذه المرة أيضاً، سبقنا الأوروبيون، وربما جاعلين غير ذي معنى أن ندنو نحن العرب من هذا الموضوع، لأن أي دنو منه، بعد الدنوّ الفرنسي، سيكون مجرد رد فعل يتلهى بتنفيذ ما سيجيء في السيناريو الذي كتبه السايس بنفسه. وفي انتظار ما سيجد، خلال العام المقبل، عام عرض المسلسل الفرنسي - الذي قد يتمخض عنه كذلك جزء يعرض سينمائياً -، نذكر أن المسلسل هو أول عمل يتشارك فيه «ستديو كنال» و«قناة بلوس»، وكان التصوير قد بدأ أوائل هذا العام 2009، على أن يستكمل خلال هذا الصيف ليصبح جاهزاً للعرض - وللسجالات الكبيرة - خلال النصف الأول من العام المقبل. أوليفييه السايس، الذي اتى الى السينما - والآن الى التلفزيون - من النقد - في «كراسات السينما» بخاصة - لم يسبق له أن حقق أية أعمال للتلفزيون... كما سبق له أن شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» مرات عدة بأفلام نالت نجاحاً نقدياً لافتاً، مثل «نظيفة» و«ديمونلافر» و«المصائر العاطفية». وهو يقول الآن إنه، بفضل الموازنة الضخمة التي كرسها المنتجون للمشروع (نحو 15 مليون يورو لأسابيع تصوير بلغت 121 أسبوعاً)، «تمكنت من أن أصور معظم مشاهد الفيلم بلغة سينمائية» مستخدماً في ذلك عشرات الممثلين وألوف الكومبارس، متنقلاً بين بلدان أوروبية كثيرة. ويقر السايس اليوم بأن الفكرة ليست في الأصل فكرته، بل فكرة أحد مسؤولي الإنتاج دانيال لوكونت الذي أضاف: «منذ شاهدت فيلم «سيريانا» الذي مثله جورج كلوني، فكرت: لم لا نحقق عملاً كبيراً عن كارلوس؟». وهو حين عرض الفكرة على أوليفييه السايس، قال له هذا الأخير: «إذاً، ليكن فيلماً سينمائياً!». لكن لوكونت، حين راح يقرأ عشرات الكتب ومئات المقالات، ويشاهد أفلاماً كثيرة اقتبست من بعض عمليات شارك كارلوس فيها أخبر السايس، بأن المشروع إن كان له أن يكتمل كما هو، يحتاج الى ما لا يقل عن خمس ساعات، ما يجعل فيلماً سينمائياً عن الموضوع، شديد الصعوبة. ومن هنا، حتى وإن كان السايس ذكر «تشي» - الذي تزيد مدة عرضه عن أربع ساعات - للأميركي ستيفن سودربرغ والنجاح، النقدي والجماهيري، الذي لاقاه في العام الفائت، فإنه، أي السايس، عاد واقتنع بعد توافق مع لوكونت على إضافة فيلم سينمائي الى المشروع. واللافت أن التفكير في «تشي» قد حدد الممثل الذي يلعب اليوم دور كارلوس في المسلسل: إدغار راميرز، صاحب أحد الأدوار الرئيسة في الجزء الأول من «تشي»، الذي، إذ طول سالفاه ووضعت نظارات على وجهه، صار قريب الشبه من الملامح المعهودة لكارلوس، أيام شبابه على الأقل. ونتيجة هذا كله ستظهر في العام المقبل، لكن الأهم منها سيكون المضمون، إذ حتى اليوم لم يعرف الكثير عن التوجه السياسي، الذي سيسير به المسلسل: هل سيعتبر كارلوس إرهابياً بالمطلق؟ أم ستكون للصورة ملامح أكثر رهافة. وبالتالي: هل سيقيض لهذا المسلسل أن يعرض على قنوات عربية (علماً بأن المشاهدين العرب هم المعنيون بالمشروع أكثر من غيرهم)، أم سيندم مسؤولو بعض القنوات، لأنهم لم يسلكوا الدرب الطبيعية في تفكيرهم، عبر النظر بعين الجدية الى مشروع «الصندوق الأسود»، اقتصادياً ولكن سياسياً وفكرياً أيضاً؟