لأسباب قد يتعذر حصرها، غدا الفكر مقترناً عندنا بالصخب والضجيج و «رفع الأصوات». ربما كان أكثر تلك الأسباب تجلياً هو ميلنا المعاصر الى ربط الفكر بالتقويض والهدم وإعادة البناء. لعل ذلك هو ما يجعلنا نذكر دائماً عند حديثنا عن التفكير، نيتشه ومطرقته، ونردد أن الفلسفة هي «فلسفة المطرقة» وأن الفكر «ضرب» للأوثان. في طبيعة الحال، مطرقتنا نحن مطرقة أكثر «تقدماً»، مطرقة صناعية، وهي ليست فحسب تلك التي يحملها البنّاء في يده، وإنما تلك التي يستخدمها مرصفو الطرقات، وهي بالطبع أشد ضجيجاً وأكثر اثارة للانتباه. نادراً ما ينصرف ذهننا عند الاشارة الى «فلسفة المطرقة» الى مطرقة أخرى ربما يكون نيتشه، الموسيقيّ وعازف البيانو، هي التي يقصد بالضبط. لإدراك ذلك ربما ينبغي أن نستبعد لغة البنّاء هذه لنستعيض عنها بلغة الموسيقي. آنئذ تغدو المطرقة، ليست أداة البنّاء، ولا حتى نصل أوكّام، وإنما آلة لقياس الذبذبات، ويغدو الفكر إنصاتاً لصوت العالم الذي يشير اليه هايدغر. يستعمل الفرنسيون الكلمة ذاتها للدلالة على الاصغاء وعلى الفهم entendre. بمقتضى ذلك، يغدو ادراك المعاني اصغاء لموسيقى الخطاب، وتغدو الأذن أداة للتفكير. لن تعود «فلسفة المطرقة» ضرباً لأصنام، ولن يعود الفكر ضجة وصخباً، وإنما جس نبض الأشياء وإحداث اهتزازة بها لقياس ذبذباتها. هنا يغدو الفكر إنصاتاً لموسيقى العالم. ومن يتكلم عن الموسيقى، لا بد من أن يستحضر الصمت كمكون أساس لكل معزوفة، لا بد من أن يستبعد من أجل ذلك كل ضجيج وصخب، فلا يقرن الفكر بالضرورة بالمواسم والمهرجانات، ولا بعقد الندوات ورفع الشعارات وإصدار البيانات، ولا بالتناحر لأخذ الكلمة والاستحواذ على المعاني والاستئثار بحق التأويل، ولا بكل ما من شأنه أن يحول دون الاصغاء الى ذبذبة الأشياء وحفيفها. * كاتب مغربي