من عيوب المثقف العربي أنه عاطفي التفكير، انفعالي الشعور، سريع الغضب، قريب الرضا، وهذا - فيما يبدو- سر وقوفه على الأطلال، وبكائه عليها، وجنونه بمن يعشق، ولو افتقدت معشوقته الجاذبية والدهشة، تماماً كما شأن بُثينة معشوقة جميل لما دخلت على عبدالملك بن مروان فصدمته ملامحُها الباهتة، فسألها متعجباً: أنت بُثينة التي يقول فيك جميل: «ألا ليتني أعمى أصم تقودني/ بُثينة لا يخفى علي كلامها»؟ قالت: نعم، قال: لا أرى فيك شيئاً مما يقول جميل، قالت: كان يراني بعينين ليستا في رأسك! وهو ما يؤكد كون العاطفة صفة أصيلة في جينات المثقف الوراثية، ما جعلها تنعكس سلباً على تعاطيه مع الكثير من قضاياه، وما يعرض له من مشكلات، والنقد كعملية تقويمية ليس بمنأى عن ذلك، بخاصة حين يُمارسه طارئ عليه، فيُكيفُ نماذجه غير المُواربة إلى نقد ذي دوافع شخصية لا موضوعية، لا لشيء إلا لأنه كُتب بلغة ساخنة أو مُلتهبة، فيما ذائقة (الناقد) المتطوع لا تستطيب سوى المثلجات والنصوص الباردة، ناسياً أو متناسياً أن للناس فيما يعشقون مذاهب، وأن المنطق يُملي عليه الانصراف إلى ما يُحب وترك ما لا يشتهي، أما أن يتناول ما تعافه نفسه ثم يذمه، فهذا إكراه يأباه المقام والمقال. وهذا الذي كان من الكاتب حسن آل عامر يوم أصدر حكمه المُتعجل على المقالة التي نقدت فيها الحراك الثقافي لأحد الروائيين، ولو كان رأيه انطباعياً يُعبر عن إعجابه أو تحفظه على ما كتبت لما رقمت حرفاً واحداً، لحقه في أن يُعجب أو لا يُعجب بما يقرأ، ولكنه سلك طريق التنظير في مقالته الموسومة: «النقد بين الشتائم والجرأة» وهي مقالة انفعالية كُتبت بمداد العاطفة، وحسبك منها ومن اندفاع كاتبها قوله: «فوجئت بسيل من الرسائل الإلكترونية وبعض المواقع الأدبية، تتناقل مقالاً هجومياً شنه أحد الكتاب السعوديين على روائي آخر، حيث تركز المقال الهجومي على جوانب شخصية تمس سلوك الروائي من دون الغوص في إنتاجه الأدبي»، ومضمون العبارة يكشف عن المثير العاطفي الذي أغراه بالكتابة، أي أنه قال حين قال الناس، ولو سكتوا لسكت، وهذا الذي دعاني لمجايلته هنا، أما الذي أوقعه في خطل تقريراته فعدة أسباب، أظهرها كونه يسمع ولم يقرأ شيئاً عن النقد الثقافي، أو قرأ ولم يفهم، ولذا افترض أن كل نقد يحيدُ عن النص إلى كاتبه هو نقد شخصي، أو «شتائمي وهجومي» كما بدا له أن يصف مقالتي، وتلك لعمري مغبة سوء الفهم، واندفاع العاطفة، حين يجتمعان ويفرزان حكماً سطحياً كحكمه. وما أودُ لصاحبنا أن يعلمه بعيداً عن أي احتشاد عاطفي، هو أن لكل مثقف أكثر من وجه يلقى الناس به، فهو في أسرته: الزوج والأب، وفي حيه جار، وفي عمله زميل، وفي وسطه الثقافي: كاتب، أو قاص، أو روائي، أو ناقد، أو شاعر، وتناول ما يتعلق بالجانب الثقافي من حياته - أيا كان إبداعاً أو ممارسة - لا يمكن تصنيفه ضمن النقد الشخصي، لأن الشخصنة هي ترك الجوانب الأدبية في حياة المثقف، والولوغ في الجوانب الذاتية المنفصلة عن حياته الأدبية، ومنها التطفل على حياته الشخصية، ووصفه مثلاً بالزوج الذي لا يحترم الحياة الزوجية، أو الطعن في ذمته المالية، أو وصفه بالابن العاق لوالديه، أو سيء العشرة لجيرانه، أما التحفظ على تسويقه لنفسه، ولأعماله الأدبية بأسلوب مُخادع يفترض الغباء الفطري في القراء، فهذا استفزاز ليس له إلا أن يُقاوم بنقد صارم، حتى لا يستعذب الآخرون خداعه فيجارونه فيه، والنفس البشرية ميالة إلى ذلك، وأقرب إلى التسفل منها إلى السمو، فهل يريد هو لتلك القيم أن تعمل عملها فينا، وأن تتكرس في ثقافتنا، ومشهدنا الثقافي ليس الأنقى والأطهر، وليس بمنأى عن الفساد من أي مشهد آخر؟! المثقف المُنتج للثقافة يختلف عن المستهلك لها، ومن شأنه كذلك فهو شخصية عامة، كما كل مطرب و ممثل ولاعب، وإذا كان أمثال هؤلاء يبشون للمدح فينبغي لهم أيضاً تقبل النقد، ولا يحسن منهم غير ذلك، لأن الغُنم بالغُرم أقصى درجات العدل، وإذا ما شنّع الجمهور أو البعض على أحدهم مرة بعد أن مُدح مرات فأي جور في ذلك، أم المفترض أن يكون أحدهم في فنه كالنبي في رسالته، معصوماً من النقائص والأخطاء والعيوب، مُؤيداً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما أوشك صاحبنا أن يفترض الحصانة النقدية لمن دافع عنه؟! وما أجمل ما قاله ثُمامة بن أشرس لعبدالملك الزيات - الوزير الأديب - يوم شكا إليه كثرة مطالب الناس وحاجاتهم إليه، وكان كريماً لا يرد أحداً، فقال ثمامة: «تريد الخلاص منهم، قال أجل، قال: اعتزل الوزارة وعلي ألا يلقاك منهم أحد». وعلى من يضيق بالنقد أن يعتزل الكتابة والظهور، وعليّ ألا يلقاه أحد بنقد، أما أن ينتشي بمدح المادحين، ويضيق بنقد البعض، فذلك جور وأثرة وطغيان! * كاتب وناقد سعودي.