حزمت أمري وجهزت حقائبى. كان لا بدّ لي من ذلك مهما يكن الثمن والثمن غالٍ، صباي، رفيقات دربي، صوري، ذكرياتي، وحبي. لم يعد هناك مكانٌ للاختباء، وبندقيتي لم يعد فيها رصاص للمقاومة، لا بدّ من الفرار. هذا هو القرار، حددت الجهة، الاتجاه، التوجَّه، مدة الإقامة، ووقت العودة أو اللاعودة أو المغادرة التالية. هأنذا ألملم ما تبقى من أشيائي الصغيرة، كراكيبي، كراريسي. هدوئي واضطرابي. نظامي وفوضاي وكل كلماتي التي أهديتها أو تلك التي ثرثرت بها. هأنذا أرحل إلى حيث الوعد، ولِمَ لا أرحل؟ أولست أنا من البدو الرُّحَّل؟ حددت رفاق الرحلة، من سيقومون معي في القافلة ومن سيطردون من الذاكرة، كثيرون سيفاجئهم هذا القرار، وكثيرون لن يستغربوه، كيف يستغرب من يعرف أنهّ الذي نفّذ الحكم عليّ وأتى بشهود الزور ليشهدوا ضدي؟ كيف يستغرب من لوّن أيامي بلون الشرايين، بلون الغضب القاني؟ فهل يُعقل أن أبقى؟ أم هل يُعقل أن أترك وأمشي وكأنّ شيئاً لم يكن، وكأني لم أكن وكأنهم ما كانوا؟ هكذا هي الأمور في بلاد العروبة، كذلك هي العلاقات، فلأرحل. حملت شنطتي ولم أنظر خلفي فوجدت أمامي من يحاول تهدئتي، ثنيي عن هذا القرار، منعي من هذا الانطلاق، إقناعي بالبقاء، لكن عبثاً يحاولون. لحظات وينطلق القطار، تنطلق المحطة، وينطلق العالم بأسره، هذا العالم المتوتر الخائف المرتجف، هذا العالم المادي المنافق، هذا العالم المتخم من أكل الغيظ وطبخ السم، معذرة ومعذور سواي، فلا أحد يحتمل أحداً والزحام خانق وحركة المرور متعثرة وخريطة السلام متعثرة والحكم بإعدام الحمائم صادر واغتيال الورد وارد، لا أحد يحتمل أحداً. إذاً لست مجبرة عليهم ولا مجبراً سواي عليّ، أعذرهم وأتمنى أن يعذروني، إذ بات لنا جميعاً استحالة أن نستمر في ما نحن عليه من الوتيرة نفسها، من الخداع ومن الضياع ومن الدمار ومن الضباب والغياب والتغيب والتصحّر. غيّر الإنسان الإنسان، خوّن الإنسان الإنسان، لا زوج لك يصبر، ولا أب لك يرحم، ولا ابن لك يعاوِد، ولا زميل يصدّق، ولا صديق يفي، ولا أحد يفهم. ماذا يجري في هذا العالم؟ وقع العالم في الفوضى ودخل الناس نفق الهلع، فالوجود أُحجيات والعيون ألغاز والكلمات التهابات والآهات توترات، وأنا قد حزمت حقائبى وحزمت أمري ووضعت حزام الأمان، لا سيما أننا غدونا حزماً وأحزاماً وأكداساً وأخماساً وأسداساً. سأرحل إلى البعيد البعيد، بعيداً عن صوت التفاهة وعن عيون الشك، سأرحل عن الانفعالات والانفجارات، فأنا إما أن أنفجر ضاحكة أو باكية، هذا حدّي الأقصى من معرفتي بالانفجارات والتحولات والضغائن المتفجرة على هذه الكرة الأرضية بأسرها. رحلتي هذه المرّة في اتجاه الداخل. سأتوغّل وأتوغل في نفسي، إنها أغلى حبيبة وأوفى صديقة، فلا تخونيني أنت الأخرى... أرجوك لا. خلف الزاوية أدخلت على قلبي التعب... نوراً للحب بلا لهب هدأت وكنت مشاكسة... ما عدت أميل إلى الغضب في الحب دروسك رائعة... من غير دفاتر أو كتب أحسست بقيمة أيامي... فلماذا رحلت بلا سبب؟ [email protected]