صدر عن دار نلسن كتاب «منير أبو دبس والحركة المسرحيّة في لبنان 1960- 1975» لخالدة سعيد، وفيه كثير ممّا سبق ان نشرته الناقدة في كتابيها «الحركة المسرحيّة في لبنان» و «الاستعارة الكبرى في شعريّة المسرح» عن هذا المخرج الرائد ومساهمته الكبرى في تلك المرحلة الذهبيّة من تاريخ المسرح اللبنانيّ. وتعود أهميّة الكتاب إلى أنّه يجمع بين دفّتيه (175 صفحة من القطع الصغير) ما تفرّق من معلومات في المرجعين الكبيرين المذكورين، ويشكّل مادة لا غنى عنها للمهتمّين بالمسرح اللبنانيّ عموماً أو بتلك الحقبة الفنيّة الخصبة. يثير الكتاب، اضافة الى ناحيته العلميّة التوثيقيّة، حنيناً إلى لبنان لم نعرفه نحن الذين ولدنا مع الحرب، غير أنّنا نجده حاضراً بقوّة في كتب تعيد قراءة تلك المرحلة، عبر الرواية والنقد والتأريخ. ولكنّه الحنين المشوب بكثير من الأسى بسبب العنف الذي قصم تلك البدايات الواعدة فأجهضها وكانت تعد بالكثير، علماً أنّ جزءاً كبيراً من ثقافتنا وحركتنا الفنيّة المعاصرة لا يزال يعتاش من تلك السنوات السمان، وغالباً ما يعود ليرشقها بحجارة التنكّر والتجاهل. أمّا ملامح ذلك اللبنان وفق سيرة منير أبو دبس المسرحيّة فيمكن التعرّف عليها من خلال بعض العلامات الفارقة، وهي: أوّلاً: الجمع بين الثقافات وصهرها في ما يلائم الواقع اللبنانيّ، فلم يسع أبو دبس إلى لبننة الأعمال العالميّة كما يحصل الآن ولم «يحاول أن يوجّه الاقتباس بحيث يصير النصّ معاصراً أو ينطق بقضايانا وموضوعاتنا... فجلب المؤلّف إلينا هو في نظره إلغاء لحقيقته، كما أنّه إلغاء لسفرنا نحوه عبر إبداعه» (ص75). ثانياً: المستوى الراقي للممثّلين والجمهور الذي كان نخبويّاً في طبيعة الحال بسبب نوع النصوص المسرحيّة المختارة ولغتها المشغولة بالعربيّة الفصحى التي عمل عليها تأليفاً أو ترجمة أو اقتباساً أنطوان معلوف وأنسي الحاج وأدونيس وخالدة سعيد وسواهم. ثالثاً: اعتبار المسرح مكانًا ذا قدسيّة معيّنة تتطلّب طقوساً خاصّة لا يجوز الإخلال بها أو إهمالها، وذلك يعني الالتزام والاحترام والاهتمام بأدقّ التفاصيل، وهنا تلفتنا العناية التي كانت تعطى للكرّاس الذي يوزّع على الجمهور، وهو أمر يستحقّ دراسة تعالج تاريخ المسرح وتطوّره أو انحسار دوره من خلال الكرّاسات نوعاً وحجماً ومضموناً وقيمة توثيقيّة. رابعاً: الالتفاف حول مسرح منير أبو دبس بدءاً من لجنة مهرجانات بعلبّك، فحين سألت سلوى السعيد رئيسة لجنة الفولكلور عهد ذاك الشابّ العائد من فرنسا: ماذا تطلب أو ماذا تشترط لكي تبقى وتعمل في لبنان، كانت مرحلة جديدة من تاريخ المسرح اللبنانيّ تبدأ، إذ أصبح أبو دبس «أوّل مسرحيّ لبنانيّ، بل أوّل مسرحيّ عربيّ، يربط بين العمل في المسرح وبين تأسيس مدرسة» (ص 44). ولم تبخل الصحافة على «معهد التمثيل الحديث» بالتشجيع، وكذلك ساندته نخبة من المثقّفين كميشال أسمر مؤسّس الندوة اللبنانيّة والشاعر جورج شحادة، وسياسيّون ككمال جنبلاط وأمين الحافظ. خامساً: الاهتمام باللغة العربيّة، فأبو دبس كان مسحوراً باللغة العربيّة الفصحى وموسيقاها وحضورها الاحتفاليّ، فضلاً عن أنّه قادم من قلب الحركة المسرحيّة الأوروبيّة (ص7). ومع أنّ النخبة المثقّفة لم تكن تثق بإمكان قيام مثل هذا المسرح باللغة العربيّة (ص9)، إلّا أنّ أبو دبس ربح الرهان واستطاع أن يضع حجر الأساس لمسرح استفاد من التجارب الغربيّة الحديثة في الأعمال الكلاسيكيّة وأوصلها إلى النخبة المثقّفة اللبنانيّة بلغة عربيّة صافية. في تمّوز (يوليو) 1970 تقرّر إقفال المعهد بعدما انفصل أبو دبس عن لجنة مهرجانات بعلبّك الدوليّة، وكانت خلافات في الرأي وأسلوب إدارة الفرقة أبعدت مسرحيّين واكبوا البدايات، وعلى رغم أنّ منير أبو دبس قدّم بعد ذلك بين لبنان وفرنسا أعمالاً مسرحيّة متباعدة في الزمن ونشر كتباً باللغة الفرنسيّة، إلّا أنّ الحرب اللبنانيّة هي التي ستقفل عمليّاً الستارة على عهد مسرحيّ راق لن يعود في طبيعة الحال غير أنّه يستحقّ التأمّل فيه والتعلّم منه، ولذلك كان ضروريّاً أن تولي دار النشر إخراج هذا الكتاب وطباعته وصوره ومراجعته اللغويّة عناية كبيرة تليق بالمضمون.