سريعة جداً الأحداث في مصر. يلهث وراءها المصريون وغيرهم من محبي هذا البلد العربي الكبير، مثيرة للدهشة أحياناً وللقلق غالباً لكنها في كل الأحوال تشير إلى حجم الاختلاف بين فرقاء تجمعوا في أيام الثورة على هدف واحد وهو إسقاط نظام حسني مبارك ثم بدأوا مرحلة الصراع على حصد غنائم الثورة أو الفوز بمكان في صدارة المشهد السياسي في مرحلة ما بعد الثورة، أو تصفية الحسابات مع الماضي أو نيل حقوق الشهداء. المشهد الآن يشير إلى قوى عدة ظلت طوال أيام الثورة وحتى لحظة التنحي «إيد واحدة»، ثم تشتتت وتوزعت على الميادين والفضائيات والمؤتمرات والندوات ومراكز صنع القرار، حيث بات القرار يُصنع عبر برامج تلفزيونية أو موقع على شبكة الإنترنت أو ميدان فسيح أو في قاعات مغلقة. في الحكم مجلس عسكري يدير البلاد بأساليب وإجراءات لا ترضي بعض القوى ويتعهد كل يوم بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لكن تشكك في نياته قوى في الشارع أو الميادين، وحكومة يبدو رئيسها مغلوباً على أمره، يواجه ضغوطاً من كل الاتجاهات فيعدل ويبدل ويعيد تشكيل الحكومة كل فترة ليرضي هذا الطرف أو ذاك فلا يرضى أحد، وإسلاميون حريصون على عدم الصدام مع العسكر، ومنشغلون بالتعامل مع الشارع ويواصلون ربط مصالح الناس بهم عن طريق خدمات يحتاجها الناس، واتصال مباشر يغير القناعات ويحفز على تعديل القرارات وتوجيه الأصوات في الانتخابات إلى أصحاب القلوب الطيبة، وقوى يسارية وليبرالية يفترض أن تناصب بعضها العداء أو على الأقل التنافر بحكم تباين الأفكار والمبادئ لكنها توحدت في هذه المرحلة على مواجهة الإسلاميين خشية عدم القدرة على مواجهتهم في الانتخابات. وبين الآليات التي يستخدمها اليسار واليمين لمواجهة الإسلاميين وتصيد أخطائهم، هناك أيضاً قوى أصبحت مؤثرة تتمثل في حركات وائتلافات غالبيتها من شبان سئموا ألاعيب الساسة عبر عقود، وفهموا مناورات السياسة وعاصروا تحالفات جرت بين أحزاب يفترض أنها معارضة وبين الحكم في عهد مبارك وفهموا أن المعارضة كانت في العهد البائد مجرد «ديكور» أكمل به النظام صورته، وأدركوا أن التغيير يصنع في الشارع، فأجادوا استخدام آليات لم تعهدها الحكومات أو الأحزاب ونجحوا في تحريك الشارع، وبعد سقوط النظام وجد هؤلاء أنفسهم وكأنه مطلوب منهم الاعتزال بعدما أنهوا المهمة أو أن القبول بأن يستخدموا لمصلحة هذا الفصيل أو ذاك. هناك أيضاً بقايا النظام السابق في مستويات مختلفة، من البلطجية إلى كبار رجال الأعمال الذين نجوا من السجن، كلهم يسعون إلى اختراق القوى الموجودة على الساحة الآن لغسل سمعتهم من جهة وحجز أماكن في المشهد المستقبلي من جهة أخرى. أما جموع الشعب أصحاب الفضل في الثورة والحق في مستقبل أفضل فباتوا في حيرة خصوصاً وهم يلهثون وراء إعلام «يُخدّم» في الغالب على أجندات لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، وفي الوقت نفسه فإن تلك الجموع أُنهكت جراء جذب أطرافها من القوى الأخرى وهي أصلاً منهكة جراء ضيق الحال والفقر وصعوبة الحياة. حين كان الهدف واحداً التف حوله الجميع .. سقط النظام لمجرد أن الملايين تجمعوا في ميدان التحرير وبعض الميادين في المحافظات الأخرى من دون أن يحتك الثوار بأي منشأة أو مقر حكومي، وحين تفرق الثوار وبدأ الصراع أصبح لكل فئة ميدان ولكل جماعة «جمعة» ولكل حزب «قناة» وتعددت المسيرات في اتجاهات متعددة، فيأتي الاحتكاك ويزداد الاحتقان وتتنصل كل فئة أو حركة أو جماعة من تهمة افتعال العنف، بينما العنف يحدث على مرأى من الجميع. هذه هي الحال الآن في مرحلة «استعراض القوة» فاليسار واليمين غاضبان من تقارب العسكر والإسلاميين، والإسلاميون قرروا الرد على ما يعتبرونه «تعطيل» تصدّرهم المشهد عبر الانتخابات بمليونية في «التحرير» الجمعة المقبل، والعسكر وحكومة شرف بين هؤلاء وأولئك، بينما الثورة تتفتت وتذوب أهدافها وتتبخر. صحيح أن رأس النظام سقط وأن بعضاً من جسده في السجون، لكن الشعوب لا تقوم بثورات لمعاقبة النظام فقط، وإنما أيضاً ليعيش الشعب بصورة أفضل .. وليس لتفوز هذه الفئة أو تلك الجماعة أو ذلك الحزب بالحكم.