حين تفجرت الثورة المصرية، توحدت كل القوى السياسية في مواجهة النظام وتمكنت من إسقاطه، ويعود الفضل إلى جموع الشعب المصري الذين لولاهم لما سقط النظام ولا نجا الذين أشعلوا الثورة وأطلقوا شرارتها الأولى من الملاحقة والتنكيل وربما القتل. أما وقد سقط رأس النظام وأجزاء من جسده فالطبيعي أن يختلف المصريون على طريقة إدارة المرحلة الانتقالية وكذلك أسلوب الحكم في المستقبل وآليات تحقيق ما تبقى من أهداف. ويُخطئ من يتصور إمكان التطابق بين مواقف التيار الإسلامي وفي قلبه جماعة «الإخوان المسلمين» وبين التيارات السياسية الأخرى سواء التي كانت موجودة على الساحة قبل ثورة 25 يناير أو التي نشأت معها أو بعدها. قد تتقاطر المصالح فيحدث توافق في شأن أمر أو أمور لفترة محدودة، لكن أن تتحد رؤية «الإخوان» مع رؤى الآخرين في كل شيء فأمر من المستحيلات، وإلا صارت كل القوى «إخواناً مسلمين»، أو تخلى «الإخوان» عن مبادئهم وأفكارهم، ليصبحوا ناصريين أو يساريين أو ليبراليين. وعلى ذلك يمكن فهم التناقض بين موقف «الجماعة» تجاه تظاهرة الجمعة الماضية التي أطلق عليها البعض اسم «جمعة الغضب الثانية» وسماها آخرون «الثورة الثانية»، ومواقف القوى الأخرى باختلاف أطيافها السياسية التي دعت إلى التظاهرة وشاركت فيها. لكن ما لا يمكن فهمه هو تحوّل اختلاف الرؤى إلى حملة اتهامات متبادلة من دون أن يقدّر الطرفان الدوافع التي دعت كلاً منهما إلى تبني الموقف الذي اختاره ورأى أنه يحقق مصالحه أو يعتقد أن فيه مصالح الوطن بحسب الزاوية التي يرى من خلالها المنافع أو المفاسد التي قد تحققها مشاركته أو غيابه. ورغم الكلام الوردي الذي ظل كل طرف يطلقه في أيام الثورة الأولى تجاه الآخر في برامج الفضائيات والمنتديات، لا يخفى أن الاعتقاد يسود لدى بعض الأشخاص في الطرفين بأن الثورة لم تكن لتنطلق أو تنجح من دونه. والحق أن كل القوى ساهمت في الثورة بشكل أو آخر فتحققت أسباب نجاحها، ويحتدم النقاش الآن في مصر والحديث الذي يفترض أن يركز على المستقبل يشد كل الأطراف إلى الماضي. الأصل في السياسة اختلاف الأفكار وربما تصارعها من أجل تحقيق مصالح الوطن، وإلا لما نشأت الأحزاب أو تعددت المدارس السياسية، وقد تتوصل القوى السياسية إلى قواسم مشتركة في شأن فساد النظام السابق مثلاً أو ضرورة إسقاطه وقد تتعاون لنيل حقوق أسر الشهداء ومحاسبة رموز الحكم السابق، لكن من المؤكد أنها ستختلف حول أسلوب الحكم في المستقبل، وهذا من منطق الأشياء، وسواء جرت الانتخابات البرلمانية المقبلة أولاً، وفقاً للإعلان الدستوري، أو تأجلت إلى ما بعد وضع دستور جديد ثم انتخاب رئيس للبلاد كما تطالب قوى متعددة، فإن بعض القوى ستنسق مع بعضها في تقسيم الدوائر الانتخابية أو للتحالف في مواجهة أخرى، كما ستتصارع من أجل أن يحقق مرشحوها مقاعد برلمانية على حساب باقي القوى ولا يمكن وقتها أن تتفق كل رؤى وخطط وأهداف كل الأحزاب والقوى السياسية والمستقلين على توزيع المقاعد البرلمانية بينها ليفوز بها مشرحون بالتزكية! فإذا كان حجم الخلاف وصل إلى مداه والاتهامات إلى أقصاها في شأن «تظاهرة الجمعة» فما بالنا بما سيحدث قبل وأثناء الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أو إجراءات إعداد الدستور الجديد؟ توحدت تقريباً قوى اليمين واليسار بعدما اعتبرت أن «الإخوان» خذلوا الثورة بمقاطعة التظاهرة، بينما رأى «الإخوان» أن هناك من يسعى إلى توريطهم ووضعهم في مواجهة مع الجيش، وبدأ الغمز واللمز حول ذلك التوافق بين الجيش و»الإخوان»، وكأن التناقض مع ما يطرحه المجلس العسكري دليل على «الثورية» والوفاء للشهداء. أثبتت تظاهرة الجمعة أن قوى أخرى ظهرت على المسرح السياسي المصري حققت تواصلاً مع الشارع وأمامها تحديات تتعلق بمواجهة الحضور الكثيف للإسلاميين عموماً و»الإخوان» خصوصاً بين طبقات الشعب، كما أثبتت أيضاً أن «الإخوان»، الذين دفعوا على مدى سنوات طويلة ثمن معارضتهم لنظام الحكم السابق، مقبلون على مرحلة سيجدون فيها أنفسهم مطالبين باستخدام آليات أخرى غير تلك التي اعتمدوا عليها في عهد مبارك والعهود التي سبقته. فالعمل السياسي في مناخ الحرية يحتاج آليات مختلفة تماماً عن مناخ البطش والملاحقات. كان الدكتور عصام العريان يرسل مقالاً إلى «الحياة» ثم يعتقل بعدها بساعات فينشر المقال بعد يومين أو ثلاثة وتتعرض الجريدة للمضايقات وينال هو التنكيل. اختلف الوضع الآن. سقط النظام وجاءت أيام التحرير ثم مضت أيام الميدان الأولى حيث كان المحتشدون «إخواناً مصريين»، وتتشكل خريطة سياسية جديدة فيها «الإخوان المسلمون» وقوى أخرى تتفق وتختلف، فقد اتسع الميدان.