يقف المواطن المصري البسيط حائراً أمام المشهد السياسي بعد الثورة، ويسأل: متى يبدأ في حصد مزايا الثورة؟ ويتعجب لأن الأطراف التي قفزت إلى واجهة المشهد تتحدث باسمه! وهو إذا لامها اتهمته بالتبعية للنظام السابق، على رغم أنه صاحب الثورة. وإذا اندفع وراءها وجد المسافة بينه وبينها بعيدة تماماً. بكل تأكيد فإن المجلس العسكري في مصر يقع في أخطاء وهو يتولى أمور المرحلة الانتقالية، فإدارة شؤون دولة بحجم مصر ووضع أسس دولة حديثة وسط صراعات النخب السياسية من أجل الفوز بكعكة الثورة ومؤامرات بقايا نظام الحكم السابق أمور تربك أي نظام حكم. فما بالك والمجلس لا يواجه أموراً كتلك فقط، ولكن أيضاً أصبح في مرمى طلقات كل فصيل سياسي لا يستجيب العسكر لرغباته؟ خرج الجيش المصري من ثكناته يوم 28 كانون الثاني (يناير) الماضي لضبط الأمور بعد انهيار الشرطة ولم يكن في عقول قادته أن من بين مهامهم تغيير النظام وخلع رئيس الدولة. فحتى ذلك اليوم لم يكن المحتشدون في ميدان التحرير أنفسهم يدركون أن الاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات تحولت إلى «ثورة» لن تهدأ إلا بإسقاط النظام وتغييره. وعلى رغم أن البيان العسكري الأول حمل إشادات بالثورة وتأكيداً على شرعية مطالب الشعب لكن ما آلت إليه الأمور بعدها جعل الجيش في الواجهة بالنسبة الى المشهد السياسي وفي مواجهة كل القوى الأخرى، ولم تعد مهمته فقط خلع النظام من دون حدوث انقسام في الجيش، وتعويض انهيار مؤسسات الدولة الأخرى، ولكن أيضاً التعامل مع احتياجات ومواقف ورغبات وأهداف وأفكار متناقضة لفئات الشعب والقوى السياسية. كانت المعادلة وما زالت صعبة خصوصاً أن طول فترة حكم مبارك بقدر ما تسببت في «سرطنة» قطاعات الدولة بالفساد فإنها أيضاً جعلت غالبية مؤسسات الدولة بما فيها النخب السياسية وحركات المعارضة تعاني أمراضاً لا تختلف كثيراً عن أمراض النظام الذي كان يعتبر نفسه «مصر الدولة». سقط النظام بفعل الحشد في ميدان التحرير ولم يحمه الجيش، ولم يصدر رد فعل من الحرس الجمهوري، الذي يفترض أن ولاء قادته وعناصره هو للرئيس مباشرة، وظهر بعدها أن القوى والنخب السياسية منقسمة وكل فصيل لا يقر بوجود قوى أخرى غيره في المجتمع لها أهداف وأفكار ومبادئ وربما مصالح تتناقض مع أهدافه وأفكاره أو مبادئه أو مصالحه، فوصل الحال إلى أن المجلس العسكري لا يمكن أن يتخذ قراراً يرضي كل القوى دفعة واحدة، وأنه من المستحيل أن تأتي سياساته وقراراته وقوانينه من دون إثارة غضب أطراف أخرى اعتبرت أن طرفاً ما استفاد منها، فوجد المجلس نفسه وقد وقع في تناقضات لم يكن يقع فيها لو توافقت النخب السياسية على ضبط إيقاع خلافاتها، وحافظت على حد أدنى من الاتفاق على قواسم مشتركة لمطالبها. تغاضت النخبة السياسية عن حقيقة مهمة بدت ظاهرة في مليونية «عودوا لثكناتكم» نهار الجمعة الماضي وعكسها الحضور الهزيل في ميدان التحرير بالمقارنة ب «المليونيات» الحقيقية منذ تفجر الثورة وحتى تنحي مبارك في 11 شباط (فبراير) الماضي، هي أن «المليونية» لن تكتمل إلا برغبة شعبية وليس لتحقيق مصلحة ضيقة لهذا الفصيل أو ذاك. لم تعِ النخبة السياسية أن بناء الدولة من جديد سيكون محل خلاف بينها، وأن ما يراه الإسلامي لن يقبله العلماني، وأن خطط اليساري والناصري لا بد أن تصطدم بأفكار ومبادئ الليبرالي أو اليميني، وأن مشاكل الأثرياء والميسورين ليست هي نفسها بالنسبة إلى الفقراء والمعدمين. وقع العسكر في أخطاء وطوال الفترة الانتقالية سيقعون في أخرى، ولكن ماذا فعل رموز الثوار، للحفاظ على الثورة من الانتهازيين وراكبي الموجات غير الكلام في الفضائيات؟ ما بين نعم ولا للاستفتاء على الإعلان الدستوري ثم الانتخابات أو الدستور أولاً، ثم مدنية الدولة أو أسلمتها، ثم بقاء أو مغادرة العسكر، ثم عزل كل فلول الحزب الوطني أو بعضهم، ثم المواد الحاكمة للدستور أو التغاضي عنها، وصلنا إلى مرحلة الانتخابات الرئاسية أولاً أو الدستور! كلها قضايا ليس فيها خيارات متعددة إما أبيض أو أسود، ومع كل خيار أو قرار للعسكر سيرضى طرف وستغضب أطراف أخرى، وسيبقى المجلس العسكري يدير المرحلة الانتقالية بطريقته، والنخب السياسية على حالها متصارعة، ورموز الثورة يذوبون، ودعاة المليونيات الفاشلة لا يتعلمون، بينما المواطن البسيط يكاد يشعر بأن كل الأطراف خذلته، وأنه ربما يحتاج إلى إسقاط كل الذين خذلوه... يحتاج إلى ثورة أخرى.