في الأيام القليلة الماضية، وقعت ثلاثة حوادث متفرقة في لبنان قد لا تمت إلى بعضها بعضاً بصلة مباشرة من حيث طبيعتها أو لاعبوها أو حتى مسرحها الجغرافي. لكنها يمكن أن تندرج في سياق واحد من السلوكيات العامة التي باتت قاعدة عامة لا مجرد استثناء. لكن، وعلى رغم ذلك الاعتياد والتبلد ربما الذي أصابنا، لا يضر (إن لم يفد) التوقف عندها. الحادثة الأولى تتلخص في اعتداء مسؤول في حزب البعث (على ما عرّف هو عن نفسه) على صيدلية في مدينة صيدا وترهيبه العاملين فيها وتعريضهم للضرب والإهانة اللفظية ثم تهديدهم بالقتل إن أبلغوا الشرطة. وقع الحادثة على السمع أخف وطأة من مشاهدته على موقع «يوتيوب» حيث تم تحميله بفضل كاميرا وضعت في الصيدلية وصورت الواقعة كاملة وتناقلها بعض اللبنانيين بكثير من الفضول والذهول. الحادثة الثانية التي لا تقل عنفاً لكن يمكن أن تصنف تحت ما يسمى «النيران الصديقة» تتلخص أيضاً بضرب أمين سر كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية أنطوان خوري حرب، من قبل عناصر ينتمون إلى حركة «أمل» اقتحموا قاعات تجرى فيها مباراة الدخول، وراحوا يوزعون نسخاً من أجوبة المسابقات على مرشحين معينين، مهدِّدين الأساتذة والمراقبين، وطالبين عدم التدخل في ما يفعلونه، إلى أن واجههم حرب، فكان أن نال قسطه من التأديب ما استدعى نقله إلى المستشفى. المشهد لم يصور على الهواتف النقالة ولم يعدُ كونه مجرد خبر هامشي في الصحف وبعض نشرات الأخبار. أما الحادثة الثالثة التي يمكن إدراجها في السياق العنفي نفسه فهي تعرض فريق من محطة «إم تي في» التلفزيونية، وأثناء إعداده تقريراً إخبارياً في بلدة لاسا (قضاء جبيل)، لاعتداء من قبل عناصر من «حزب الله» حطموا كاميرا الفريق ومنعوه من استكمال مهمته حول قطعة أرض مشتركة مع الوقف الماروني متنازع على مساحتها وملكيتها. تلك كلها حوادث جرت في مسرح عام من صيدلية وجامعة وخراج بلدة، وبالتالي حظيت بترف الخروج إلى العلن سواء بفضل التكنولوجيا أو شيء من الاهتمام الإعلامي، وإن لم ترق إلى مستوى تحويلها إلى قضايا رأي عام. فحتى الحادثة الأخيرة التي احتلت حيزاً غير قليل من تغطيات وسائل الإعلام، وأفردت لها إحدى الصحف المحلية صفحات و «مانشيتات»، لم تستر هذا التركيز لولا أن وقفاً دينياً وضع على المحك. لكن الواقع اليومي في لبنان يؤشر إلى أن تلك الحوادث، على فجاجتها، تندرج في منطق عام بات يعرض الأشخاص لتجاوزات مشابهة تطاولهم كأفراد وليس كمجموعات ينضوون تحت طائفة أو حزب أو حركة. ففي أي سياق يمكن إدراج تعرض شباب من الحزب السوري القومي الاجتماعي لأحد الصحافيين في شارع الحمرا إلا ضمن ذلك المنطق العنفي نفسه؟ ويبدو في استحضار تلك الأمثلة ما يحرض على القول إن التجاوزات كلها قام بها فريق سياسي واحد والفلول المتفرعة عنه. وهو إذ ذاك لا يستثني في عنفه حتى حلفاءه في حال خرجوا عن طوعه، بدليل تعرض «العوني» للكمات «الحركي» من دون أن ينتج عن ذلك ولو بيان اعتذار أو تنديد. ولعل أكثر ما يثير الذعر أن الشباب المعتدين في تلك الحالات كلها إن أخذوا فرادى، يجمعهم قاسم مشترك هو أنهم لم يفكروا ولو للحظة في احتمال عدم جواز فعلتهم أو إمكانية محاسبتهم من جهاز عام (الشرطة) أو خاص (أحزابهم نفسها). وليس التفكير فيهم ب «المفرق» لتبرئة الجهات التي ينتمون إليها أو للقول إنهم لم يتصرفوا بقرار مركزي من قياداتهم، وإنما هو محاولة، يائسة ربما، لفهم مصدر تلك الثقة الفائضة بالنفس ومصدر الصلاحيات المعطاة لهم لاقتراف ما اقترفوه. الإجابة الأسهل والأكثر واقعية هي أنهم ببساطة «قادرون» مقابل عجزنا نحن المتلقين الذين لا نملك إلا أن نجيبهم «فهمت... فهمت» كما فعلت الصيدلانية. واللافت أن في كل مرة تقع حوادث مشابهة، وهي إلى تكاثر هذه الأيام، يخرج من يدعو الدولة إلى أداء واجبها في المحاسبة وملاحقة المخالفين تماماً كما حدث في قضية قمع مخالفات البناء حين طلب من الدولة تطبيق القانون على مخالفات رعتها لسنوات قوى أمر واقع في مناطق الجنوب. هي حالة انفلات تام من أي ضابط أو قيمة مدنية أو سلوك «مواطنة» يجعل من تلك الوقائع مناسبة لوسائل الإعلام أو التجمعات المهنية (على ضآلتها) أو الناشطين في المجال العام لإعادة طرح أسئلة بسيطة على أنفسهم وعلى الرأي العام. على العكس تماماً. فالاهتمام الإعلامي الذي حظيت به حادثة بلدة جبيل مثلاً، جاء طائفياً إلى حد يشعر معه المراقب أن المسألة هي شيعية - مارونية محضة ولا تمت إلى قوانين الملكية بصلة. حتى إن بعض مقالات الرأي جعل الطائفة الشيعية كلها منضوية تحت سلاح حزب الله في مواجهة مع الوقف الماروني. أما الأجهزة الأمنية التي ألقت القبض على «القبضاي البعثي» الذي اقتحم الصيدلية فلم تجد وسيلة أفضل لاستجوابه من تعريضه أيضاً للضرب المبرح والتعذيب. في وقت لا حاجة عملياً لاستنطاقه كون الواقعة مصورة ولا يمكنه التنصل منها وكانت تكفي محاكمته. صحيح أن مشاهدة الفيديو على «يوتيوب» تغري بالانتقام، لكن الثأر ليس، أو على الأقل يجب ألا يكون، ممارسة رسمية لسلطات تطبيق القانون، بما يجعل هذا «البلطجي» نفسه أكثر شراسة حين يأتي من يمنحه جرعة سلطة. تلك الانتهاكات كلها وقعت في غفلة من قادة المعارضة الجديدة الذين اختزلوا قضيتهم بالمحكمة الدولية. معارضة لا يملك جمهورها العادي إلا التمسك بما يعتقدونه بعض نظام ودولة. تماماً كما حدث مع صديق سرقت دراجته النارية فتوجه إلى أقرب مخفر ليتقدم بشكوى. بعد توقيعه على المحضر وسؤاله الشرطي إن كان من بادرة أمل لإيجادها، أجابه الأخير «يا أستاذ فيه 7 إستونيين ضايعين في البلد! جايي تسأل عن موتو؟». اليوم أفرج عن الإستونيين السبعة... لكن الجهة التي أطلقتهم ليست تلك التي يطالبها صديقنا بالبحث عن دراجته.