عاد قاسم الى لبنان ليمضي إجازة بعد أربع سنوات قضاها متواصلة في لندن، وأقام في منزل أهله في الضاحية الجنوبية لبيروت. لكن سنوات الغياب هذه زودته بحاسة رصد واستشعار يبدو ان السكان المحليين فقدوها في سياق جريان حياتهم وسعيهم الحثيث وراء عيشهم الصعب هناك. أول ما رصده قاسم في محلته التي عاد إليها ان تمييزاً كبيراً ممارساً في حق سكان الضاحية يكشفه ابتعادك منها خطوتين فقط. لوهلة قد تشعر ان قاسم انخرط في السجال اللبناني حول الضاحية، بين من يعتبرها جزيرة أمنية ل «حزب الله» وبين من يتحدث عن الحرمان التاريخي الذي تعرض له سكانها، لكنه سريعاً ما يُصوّب الاعتقاد، إذ يقول ان غياب الدولة، بما هي سلطة، عن الضاحية، غالباً ما يُذكر في السجال اللبناني في سياق استهداف السكان والتلميح الى ميلهم الى الخروج عنها. ولكن ماذا عن أكثرية من السكان هم اليوم ضحايا هذا الغياب القسري؟ يقول مثلاً: ماذا عن طفلي الذي أحضرته معي وأصيب بذهول لم يتبدد بعد عندما أقدم جارنا بعد فوز البرازيل على إطلاق الرصاص من رشاشه الحربي من على الشرفة المقابلة تماماً لشرفة منزل أهلي؟ وعندما يجيب شقيق قاسم ان صدمة الطفل ناجمة عن عدم تعوده على هذا النوع من التصرف بفعل الغربة، يُعقب ان هذا يعني ان المشكلة أكبر، إذ ان أطفالكم ألفوا مشهد إطلاق الرصاص، فصار في وعيهم عادياً. يردد قاسم يومياً حكايات عن الضاحية التي لم تمض على إقامته فيها أسابيع قليلة، في حين كنا ننتظر حكاياته عن لندن التي أقام فيها أربع سنوات متواصلة. يقول ان «حزب الله» ليس سلطة في الضاحية الجنوبية لبيروت، على ما درج اللبنانيون في وصفه. في تلك المنطقة لا سلطة لأحد على الإطلاق. «حزب الله» أخرج الدولة من ضاحيته لكنه لم يحل محلها. شقيقة قاسم أخبرته ان «شرطي سير» من أولئك الذين يتبعون لشركة وعد التي أنشأها الحزب بعد حرب تموز، والتي غالباً ما يكون «شرطيوها» عناصر من قدامى مقاتلي الحزب، تعرض للضرب والإهانة من سائق حافلة صغيرة (فان) تحت أنظار العابرين، ومن دون ان يحرك أحد ساكناً. ويسوق قاسم كل يوم عشرات الحكايات عن عجز الحزب عن ضبط ظواهر متفشية هناك كالإدمان على الحبوب المخدرة، وظاهرة استيقاظ عصبيات عائلية ومناطقية أفضت الى اشتباكات مسلحة في الكثير من الأحيان. «حزب الله» ليس سلطة كاملة كما لاحظ قاسم، وهذا أمر منطقي، إذ انه حزب ولديه حسابات الحزب قبل حسابات السلطة. الفوز في الانتخابات يفوق في حساباته الصدام مع مجموعة خارجة عن القانون، لا بل إن الأولى تحتاج الى الامتناع عن القيام بالثانية. ووجه السلطة الذي يمثله الحزب هو ذاك الذي يخدم وجوده وتفرضه حساباته الأمنية، وليس الوجه الذي يمليه الوجود المدني وجريان الحياة اليومية. وبهذا المعنى، فإن تمييزاً تتعرض له أكثرية متضررة من غياب الدولة، وهو ممارس من جانبها ومن جانب الحزب أيضاً. *** حول طاولة في مقهى «ستارباكس» في ساحة ساسين، قلب منطقة الأشرفية في بيروت، تحلق رجال تتفاوت أعمارهم بين العقدين الخامس والسادس. ولم يكن الموضوع الذي كانوا يتداولونه هو ذلك الموضوع الأثير الذي غالباً ما تثيره حلقات الرجال والنساء في تلك المقاهي، ونعني هنا الخصومة المريرة بين ميشال عون وسمير جعجع. كان موضوعهم في ذلك اليوم «واقعة» إلقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري كلمة في مؤتمر اتحاد برلمانات الدول الأعضاء في المؤتمر الاسلامي المعقود في دمشق. لم يكن مضمون كلمة بري مدار النقاش، بل مبدأ مشاركته في المؤتمر، إذ إنه بحسبهم رئيس برلمان دولة من المفترض ألا تكون عضواً في هذا المؤتمر. لم يشهد الحديث انقساماً على نحو ما يجري حين يتناولون خصومة عون - جعجع، كان الحديث تداولياً، وهم أضافوا الى تحفظهم على عضوية لبنان في هذا المؤتمر استغراباً لمشاركة رئيس الجمهورية الماروني في جلسات هذا المؤتمر حين يكون مؤتمر قمة. هذا الاستغراب هو جزء من ثقافة انقطاع ذهني عن المحيط غالباً ما يُكابده سكان المناطق المسيحية من بيروت. ليس انعزالية على نحو ما ابتذل هذا الوصف الخطاب الشعبوي اليساروي، انما هو نوع من الانقطاع المعوق لفهم حقيقة أين نعيش، وفي ظل أي منظومات يجب ان نندرج. إنه عقم حقيقي يُكابده «الوعي المسيحي» في لبنان. ذلك الاعتقاد بالفرادة، الذي ينجم عنه قدر هائل من الالتباسات، ليس أفدحها اعتراض أحزاب ونواب مسيحيين على إعطاء حقوق عادية وضرورية للاجئين الفلسطينيين في لبنان، ففسر خبثاء السياسة في لبنان موقفهم بالعنصري، في حين أنه ينطوي فعلاً على هذا الانقطاع. ولهذا الانقطاع وجوه كثيرة تكشف اليوم خللاً في وعي الجسم السياسي للمسيحيين في لبنان، هم الذين كانوا عصب هذا البلد وجوهره وحيويته، فيظهرهم اليوم بصفتهم فتوّته، لا بما تعنيه الفتوّة من قوة، بل من سذاجة ووهن. تقريب فكرة مشاركة لبنان في مؤتمر منظمة الدول الاسلامية من فكرة أسلمة لبنان التي تُراود السكان في ساحة ساسين، وتُراودنا أيضاً، عينة على ذلك الخلط الذي يجريه سكان مستضعفون بدورهم، يقيمون في الضاحية الشرقيةلبيروت بجوار مواطنيهم في الضاحية الجنوبية، ولكل منهما ضائقته. *** الشاب الذي يملك ورشة لتصليح السيارات في منطقة الطريق الجديدة في بيروت والذي رفع في السنوات الفائتة، في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، لافتة حديدية ثبتها الى جانب محله احتفالاً بالانسحاب السوري من لبنان، كان عليه في الأشهر الفائتة إزالتها، ليس رغبةً منه، أو لاقتناعه بأن مرحلة الاحتفال بالانسحاب قد انقضت، انما لأن مسؤولين في تيار المستقبل الذي ينشط فيه طلبوا منه ذلك. تُلخص هذه الحكاية غير المثيرة حال السنّة في لبنان. فالواقعية، التي شُهدت لهم على مدى تجربتهم في التركيبة اللبنانية، أطاحتها سنوات استيقاظ المشاعر التي أطلقها حدث اغتيال الحريري، فاقتربوا خلالها من «الموديلين» الماروني والشيعي لجهة توظيفهم الشارع في منظومة وجودهم وصراعهم. لكن عليهم اليوم، وبضربة واحدة، معاودة الانتظام في واقعيتهم السالفة. غالباً ما يرصد المرء هذه المعادلة على شكل حيرة واضطراب على وجوه سكان الطريق الجديدة الحائرين في كيفية استقبال المطلوب منهم. فهم لم يسبق لهم أن اختبروا المشاغبة على الخيارات الكبرى، لكنهم في الوقت نفسه لم يُهيأوا للمهمة الجديدة. يقولون إنهم متفهمون لزيارة رئيس الحكومة سعد الحريري دمشق بصفته رئيساً للحكومة، ولا يرغبون بزيارته لها بصفته زعيمهم. ولكن كيف يُمكن الفصل بين الرجل وبين نفسه؟ كان القرار سريعاً، والواقعية التي يُطالبون بالاندراج فيها تقتضي بدورها توقع الحيرة والاضطراب، لكنها قد تقتضي ما هو أكثر من ذلك.