منذ نحو خمسة أشهر خُطف سبعة مواطنين أستونيين في منطقة البقاع اللبناني، من دون أن تتمكن السلطات اللبنانية من تحريرهم، واليوم وبعد نحو 133 يوماً على خطفهم نجحت أجهزة استخبارات دولية وبالتعاون مع «أطراف إقليمية ومحلية» في تحرير المواطنين الأستونيين! هذه ليست فضيحة للسلطة في لبنان، لا بل إن وزير الداخلية اللبناني مروان شربل اعتبرها «انتصاراً للبنان». ليس معروفاً بعد المصدر الحقيقي للصفعة التي تلقتها الحكومة اللبنانية الجديدة. فالأرجح أن تكون صفعة غير مقصودة، وهنا تكون المصيبة أكبر: ذاك أنها بهذا المعنى أقل من أن يُنتبه إلى الجرح الذي طاول «كرامتها»، إذ تتقدم في الأولويات هنا الفواتير التي من المرجح ان تتقاضاها جهات إقليمية مأزومة (سورية)، أو جهات محلية تسعى إلى بناء قناعة لدى المجتمع الدولي بالحاجة اليها في أوضاع مشابهة «حزب الله». وهذه كلها احتمالات وتأويلات، لكن ما ليس تأويلاً ولا تحليلاً هو الإهانة الكبرى التي أصابت الحكومة اللبنانية في يوم عملها الأول. المؤشر الأستوني كبير لجهة تحديد بوصلة الحكومة اللبنانية. فلا يبدو دقيقاً ما تشير اليه المعارضة لجهة أن هذه الحكومة هي حكومة «حزب الله». انها أقل من ذلك على ما يبدو. فما جرى في سهل البقاع عشية الإفراج عن الأستونيين يكشف الموت الكامل للدولة في لبنان: في هذه الحقيقة تندرج الأخبار عن أن ضباط الجيش اللبناني الذين ينتشرون في المنطقة عرفوا بخبر الإفراج عن الأستونيين من وسائل الإعلام، وأن سيارات السفارة الفرنسية، التي توجهت فجراً إلى سهل البقاع لاستلام «الأمانة»، نسّقت مع «أطراف محلية» عملية انتقالها، وليس مع السلطات اللبنانية، وأن دور الأجهزة الأمنية في لبنان كان عبر الاستماع الى الوقائع بعد حصولها. الصفعة على وجه الحكومة الجديدة في يوم عملها الأول جاءت من البقاع وليس من طرابلس، على نحو ما كان يتوقع رئيسها «رجل الدولة وصاحب الخبرة» نجيب ميقاتي. وإذا ما رسم المرء سيناريو الصفعة وفق ما رشح من معلومات عن عملية تحرير الأستونيين السبعة فلن يخلص إلا إلى نتيجة واحدة، هي أن الأطراف التي كلفت ميقاتي تشكيل الحكومة هي من قامت بالمهمة. العملية حصلت في سهل البقاع حيث النفوذ الواسع ل «حزب الله»، وبالقرب من الحدود اللبنانية - السورية. والطرف المحلي الذي تولى عملية التنسيق والتغطية و «ضبط الأرض» وفق ما نقلت صحافة قريبة من «حزب الله»، لن يكون في هذه الحال إلا الحزب نفسه. لا تحتاج حكومة ميقاتي الى خصوم حتى تترنح كل يوم. يمكن سعد الحريري أن يبقى في باريس، وأن يستكمل سمير جعجع الورشة التنظيمية لحزبه بعيداً عن ضجيج التنافس مع ميشال عون. وفي هذا الوقت ستواجه حكومة «القمصان السود» المطبات من دون جهد من أحد. هكذا وحدها وأثناء سيرها العادي. فبعد وقت ليس طويلاً ستطلب المحكمة الدولية، ومن دون دفع من «14 آذار»، نصيب لبنان من موازنتها. ميقاتي قال إنه ملتزم ذلك، و«حزب الله»، الشريك الأكبر في الحكومة، سيقف طبعاً في وجه «رجل الدولة وصاحب الخبرة». سيترنح الأخير مجدداً. «لا دولة في لبنان في ظل السلاح»، قد تكون «14 آذار» ابتذلت هذه الحقيقة، لكن في المقابل جرى ابتذال موازٍ حرر شعار المعارضة من رتابته. فأي خطأ يمكن أن يذكر لسعد الحريري بعد الذي جرى في الأمس؟ الأخطاء، والحال هذه، هي سوء تصرف وتقدير وانعدام خبرة، في حين كشفت وقائع يوم الأستونيين أن هناك قراراً حقيقياً بقتل فكرة الدولة بعد أن تم قتل جسمها. ثم إن الاستخفاف بالوظيفة البديهية المنوطة بالدولة لا يبدو ضرباً من الإهمال، ف «حزب الله» جزء من الحكومة الجديدة ومن المفترض أن يكون معنياً ب «كرامتها» التي هُدرت في سهل البقاع، وعدم الاكتراث لهذه يشبه إلى حد بعيد قول الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير ان لا حكومة ميقاتي ولا حكومة الحريري ولا غيرهما يمكن أن تنفذ عملية إلقاء القبض على من وردت أسماؤهم في القرار الظني. ثمة إمعان في توصيف الحال وسعي إلى انتزاع اعتراف به. فاللبنانيون كان من الممكن أن يفهموا عجز حكومتهم عن تنفيذ مذكرات الجلب تلك، لكن أن يُعلن ذلك من قبل طرف مشارك في الحكومة، ففي ذلك قرار بإشهار هوية السلطة الفعلية، وأن يُقال إن فكرة الدولة هي ترف يجب الإقلاع عن طلبه. قد يعتقد المرء أن من النتائج الإيجابية لحملة المعارضة على السلاح غير الشرعي، استيقاظ وعي يدين الجهر بالوظيفة السياسية واليومية لهذا السلاح، وللبؤر الأمنية المتشكلة بفعله. والدليل أن الصحافة القريبة من «حزب الله» لم تتمكن من التغاضي عن فضيحة الأستونيين! لكن من المرجح أن لا يكون الفضل في ذلك لخطاب المعارضة، بل للانكشاف الفاضح الذي تمت عملية تحرير الأستونيين بموجبه. فالحكومة التي لم تشعر بالإهانة، والتي اعتبر وزير داخليتها العملية انتصاراً للبنان، ليست وحدها من أُهدرت كرامتها. اللبنانيون من طرفي الانقسام، أدهشتهم تلك السهولة في توجيه الإهانة الى دولتهم وبالتالي إليهم. وليست فقط كرامة الدولة وحدها ما أُهدر، فنحن في انتظار أن يُهدر المزيد من أسباب العيش في ظل هذه الحكومة. الموسم السياحي في أدنى مستوى له منذ سنوات، واستحقاق القرار الظني وضع لبنان في منطقة الريبة الدولية، والوقائع السورية تفتح على احتمالات انتقال شراراتها الى مناطق لبنانية. لا أحدَ متفائلاً ومبتسماً هذه الأيام سوى ميشال عون، إذ إن عشر حقائب وزارية ستعوض له مرارات كثيرة، أين منها لبنان ومستقبله.