لا شك في أن الموسيقي الروسي الكبير ديمتري شوستاكوفتش كان غارقاً في أحلامه الفنية خلال النصف الأول من ثلاثينات القرن العشرين، الى درجة انه لم يكن مدركاً ما يدور من حوله من محاكمات وضروب تخوين وقمع للفنون والآداب والأفكار إبان عصر محاكمات موسكو الشهيرة. ومن هنا أصيب الرجل بصدمة كبيرة، حين أتيح له ذات يوم أن يدعى الى الكرملين لكي يقدّم هناك في حضرة زعيم الدولة والحزب جوزف ستالين عرضاً لأوبرا كانت عروضها قد بدأت، مع ذلك، قبل سنتين في لينينغراد ونالت حظوة لدى المشاهدين. بل إن هذه الأوبرا نالت منذ عرضها الافتتاحي تقريظاً كبيراً في الصحف الرسمية واعتبرت فتحاً كبيراً في عالم الفن الأوبرالي السوفياتي، واعتبر ملحنها فناناً شعبياً كبيراً. ولكن حين قدمت الأوبرا في الكرملين حدث ما لم يكن متوقعاً على الإطلاق: لم يحب ستالين هذه الأوبرا. ربما كان مزاجه سيئاً في ذلك اليوم ولا دخل للعمل الفني نفسه بالأمر. وربما كان ثمة من همس له ببضع كلمات حول شوستاكوفيتش. كل هذا وارد. لكن المهم في الأمر أن «أبا الشعب» لم يستسغ ذلك العمل. هو لم يدل بتعليقات كثيرة... ولم يبد الكثير من الاستياء. غير أن إشارات قليلة منه ونظرات نارية، كانت كافية لكي يلتقط معاونوه الرسالة. وهكذا، منذ صباح اليوم التالي، نشرت «البرافدا»، صحيفة الحزب، مقالاً يهاجم شوستاكوفتش وعمله هذا، معلناً إياه «بورجوازياً صغيراً»... وكانت هذه ثاني أكبر تهمة في موسكو ذلك العصر، بعد تهمة الخيانة. أما موسيقاه فلقد وصمت بأسوأ صفة كان يمكن إطلاقها على عمل فني في ذلك الزمن الديكتاتوري المريع: إنها موسيقى شكلية. وهكذا، إذ اعتبر شوستاكوفتش مهرطقاً في شكل مزدوج، بدأت متاعبه التي لن تنتهي بعد ذلك أبداً، إذ سيصبح - وحتى وفاة ستالين وزوال جدانوف - واحداً من أكثر الموسيقيين السوفيات عرضة للاضطهاد الرسمي. ومع هذا لن يفوتنا أن نذكر أن المسكين بذل كل جده لكي يدرأ عن نفسه التهم والغضب... فوضع الأوبرا الموصومة جانباً (ليعيد تلحينها لاحقاً تحت اسم آخر هو «كاترينا اسماعيلوفا»، ولا يقدمها من جديد، إلا في عام 1963 في موسكو)، كما انه رمى في سلة النسيان سيمفونية أخرى له هي الرابعة، كانت مدانة هي الأخرى بصفتها «تشاؤمية»، ثم جلس الى أدواته وكتب سيمفونية خامسة، يمكن لعنوانها أن يقول لنا الكثير: «رد مبدع لفنان سوفياتي على نقد صائب». ولنعد هنا الى تلك الأوبرا المدانة. إن العنوان الأول الذي قدمت به كان «الليدي ماكبث في مسنسك»، وهي كما يدل عنوانها، ذات صلة مباشرة بأجواء مسرحية شكسبير الشهيرة «ماكبث»، مع تركيزها هنا على دور المرأة الشرير، في الأحداث. ومهما يكن من أمر، فإن شوستاكوفتش لم يأت بالعمل من عنده، بل اقتبسه من قصة كان الكاتب الروسي نيقولاي لسكوف، قد نشرها في عام 1866. ويتحدث العمل، بشيء من الاختصار، عن كاترينا لفوفنا، وهي زوجة تاجر غني في الريف الروسي، تقدمها لنا القصة بصفتها ليدي ماكبث معاصرة، لا تتوانى في سبيل غاياتها عن ارتكاب سلسلة من الجرائم، وهمها في نهاية الأمر أن تمكنها جرائمها هذه من التقارب مع الشاب الذي تعشقه في علاقة آثمة. أما نهايتها فإنها تكون انتحاراً. وقبل انتحارها، تكون كاترينا قد تمكنت مع مزارع شاب أولعت به، من خنق زوجها وإخفاء جثته في قبو. وهي بعد ذلك تعمد الى وضع السم في طعام والد زوجها وقتله، بعدما اكتشف ما فعلته... ثم لا تكتفي كاترينا بهذا، بل تقتل أيضا طفلاً، لكي تبقى هي الوارثة الوحيدة لثروة زوجها. أخيراً إذ تكتشف جرائم هذه «الليدي ماكبث» المعاصرة، نراها تساق الى المحاكم حيث تدان ويحكم عليها بالسجن مع الأشغال الشاقة... وحين تنقل مع عشيقها الى سيبيريا حيث يتعين عليهما إمضاء عقوبتيهما، يخونها العشيق الشاب مع محكومة أخرى تكون معهما في القافلة، ما يجعلها تجن وتمسك بغريمتها الجديدة، رامية بها، وبنفسها في الوقت عينه في لجة نهر عميق. لقد نالت هذه القصة حين نشرت للمرة الأولى نجاحاً كبيراً، خصوصاً أن الكاتب كان يعرف حياة السجناء والمنفيين عن قرب، ما مكّنه من أن يكون واقعياً ودقيقاً في وصفه. ومن هنا، حين لحّن شوستاكوفتش هذا العمل، أضفى عليه قوالب موسيقية شديدة الالتصاق بالمشاعر وبالحياة اليومية للأشخاص، حتى من دون أن يغوص، طبعاً، في كل التفاصيل التي غاص فيها الكاتب. بيد أن رسالة العمل الأخلاقية في الكتاب كما في الأوبرا، كانت هي نفسها وواضحة في الحالين: إن كل من سعى للحصول على سعادته المفرطة بغض النظر عن سعادة الآخرين وأمانيهم, سينتهي الأمر به الى نهاية بائسة؟ ترى هل فكّر ستالين، حين شاهد العمل في تلك الأمسية التي باتت شهيرة مذّاك، أن ثمة رسالة فيه موجهة إليه هو شخصياً؟ ربما، وربما يكون الأمر مجرد ذوق فني. لكن في الحالين، وقع ديمتري شوستاكوفتش ضحية ذلك العمل... هو الذي قال عنه مقال «البرافدا»، إنه «عالج بخفة شديدة ولا تحتمل موضوعاً خطيراً، يطاول في عمله الحياة داخل كولخوز»، مع أن الموسيقي أصرّ دائماً على أنه إنما توخى أن يقدم عملاً ترفيهياً مملوءاً بالمشاعر والأحاسيس والأحداث، ما يتيح مجالاً لكتابة موسيقى جديدة، وللمزج بين بعد غنائي، فردي وجماعي، وبعد راقص... غير أن «البرافدا» أصرت على موقفها، ثم تبعتها بقية الصحف، في حملة سنجد بسرعة أنها تجاوزت عمل شوستاكوفتش هذا لتمهد للبيان الذي أصدره جدانوف - أحد كبار مستشاري ستالين في شؤون الفن والثقافة - في عام 1948 وفيه حدد ما يجب أن تكون عليه التوجهات الأساسية للفنون السوفياتية. ونعرف طبعاً أن شوستاكوفتش، بعد موقف ستالين من أوبراه، كان مرة أخرى الضحية الرئيسة في عالم الموسيقى، للمواقف الجدانوفية، ما جعله منذ ذلك الحين يتوقف تماماً عن كتابة أي عمل موسيقي مسرحي، إذ لا تحمل لائحة أعماله، وحتى رحيله، سوى أعمال موسيقية خالصة (سيمفونيات وكونشرتات وما شابه) ما جعل الفن السوفياتي المسرحي (في مجالي الأوبرا والباليه) يخسر أحد كبار مبدعيه في القرن العشرين، هذا إذا استثنينا عملاً مسرحياً يتيماً له، وضعه في عام 1958، ولم ينظر إليه النقاد، على أية حال، نظرة جدية، لأنه لم يكن في نظرهم سوى كوميديا موسيقية مفتعلة، ونعنى بها أوبريت «موسكو: حي تشيريوموشكي». مهما يكن من أمر، فإن هذا لم يقلل أبداً من أهمية ديمتري شوستاكوفتش (1906 - 1977) في تاريخ الموسيقى الروسية، وفي تاريخ الموسيقى العالمية في القرن العشرين، إذ أنه يبقى، الى جانب بروكوفياف وزميله رحمانينوف - والى حد كبير خاتشادوريان أيضاً - من كبار الذين طبعوا الفن الموسيقي السوفياتي، كل منهم بطابعه الخاص، مع ميل من جانب النقاد الى تفضيل شوستاكوفتش في مضمار الموسيقى الدرامية، في مقابل تفضيل رحمانينوف في عالم الكونشرتو. ولد ديمتري شوستاكوفتش في بطرسبرغ ودرس الموسيقى على ماكس شتنبرغ وغلازونوف وكتب مبكراً سيمفونيته الأولى، التي كانت سيمفونية تخرّج لكنها حققت نجاحاً شعبياً كبيراً لاحقاً. ولقد كتب هذا الفنان الكثير من السيمفونيات، وثلاث باليهات نالت شهرة كبيرة، إضافة الى الكثير من الكونشرتوات والرباعيات، ولا سيما رباعيته المعروفة باسم «رباعية الوتر الخامسة عشرة» والتي تتألف من ست حركات اداجيو متتالية من دون أن ننسى هنا ، طبعاً المجموعتين المعنونتين «جاز 1» و»جاز 2»، وفيهما ذلك الفالس الشهير الذي استخدمه السينمائي الراحل ستانلي كوبريك في مقدمة وخاتمة فيلمه الأخير «عيون مغمضة على اتّساعها». وإذا كان شوستاكوفتش قد عانى كثيراً إبان الحقبة الستالينية، فإن ذلك لم يدفعه الى مغادرة وطنه، بل بقي فيه تحت وقع الاضطهاد، حتى زال الذين اضطهدوه، وبقي هو وفنه حتى النهاية. [email protected]