ربما برع المفكر الراحل محمد عابد الجابري في «نقد العقل العربي»، وربما برع آخرون من عرب وعجم في التدليل على سمات العلّة في الشخصية العربية لا سيما في عقود ما بعد النهضة. فأفخاخ المؤامرة، ومفاهيم الوطنية والعمالة، وجدل الكفر والإيمان، يواكب النقاش العام، ويُخرج الموضوع من سياقه، لسوّقه إلى مجالات أخرى وفضاءات لا علاقة لها بالحدث. ربما هكذا نفهم الوجع العام الذي يواكب استحقاقاتنا الكبرى. ففي علاقة الأغلبية والأكثرية، وفي صراع المعارضة والأنظمة، وفي تنافس السجّان والسجين، تنبري آلام المخاض: هل العمل المعارض عمل وطني؟ وهل العلاقة مع الخارج عمالة وارتباط؟ اللبس في الأمر عند العرب يعكس حال قناعة جماعية مقلقة بأننا نعيش في عالم لوحدنا، وأن العام الآخر هو عالم الأعداء، أو دار الكفر حتى بالمعنى غير الديني. العولمة بالنسبة إلينا طقس وموضه، أما القيّم الكونية فهي ترف مشبوه، أو على الأقل جعجعة لا نفهمها. النباهة العربية شكت من إرباك العالم الغربي في مقاربة إنتفاضة المصريين (كما التونسيين) على نظامهم. والعقل العربي إنتقل من الشكوى إلى التشكيك في إنقلاب الرأي العام الغربي ضد نظام مبارك (كما نظام بن علي). والعلّة العربية تنفست هواء متآمراً في حرص هذا الغرب بقيادة واشنطن على إحتضان وتأييد الحراك في مصر (كما في تونس). الأمر تكرر في ليبيا إلى حد اتهام الغرب بالوقوف إلى جانب نظام القذافي في الأيام الأولى لإنتفاضة الليبيين. حتى أن أقلاماً كتبت، وحناجر صرخت مستنكرة تقاعس الغرب في عدم التدخل لإنقاذ بنغازي من مجزرة كان يُعدّها نظام العقيد القذافي. وحين تحرك هذا الغرب (أياً تكن دوافع هذا التحرك)، استمرت عبقرية العرب في استيلاد الذعر والتوجس. في الحالة السورية، راقبنا تذمراً من قبل المعارضة والرأي العام العربي المعارض للنظام، من تعامل براغماتي ملتبس للعالم الغربي مع الحالة في سورية. العالم الغربي ما زال متواصلاً بسفرائه ومبعوثيه مع النظام في دمشق، كما أن التصريحات الإيجابية من واشنطن وباريس، قبل موسكو وبكين، تتسابق تأييداً لإصلاح موعود، أو تثميناً لإجتماع لمعارضة لمجرد أنه عُقد في فندق في الداخل. لكن أي تبدل في موقف الغرب منذ مفترق زيارة السفيرين الأميركي والفرنسي إلى حماة، أعاد إنتاج توجس من «مؤامرة» ما تُعد في الأفق. قصور بنيوي ما يفسر آلية تلقي الحدث بكونه فعلاً غربياً أو عثمانياً أو فارسياً... وكان قبل ذلك شيوعياً. وريبة المعارضة بنخبها، تتناقض مع سلوك المعارضة بقواعدها. فالسفيران في حماة استقبلا بالورود، بينما ترتفع أعلام دول الناتو من دون وجل في شوارع بنغازي. وريبة النخبة المعارضة تلتقي بغرابة مع اللغة الخشبية التي أجاد النظام العربي استخدامها، والذي ما زال لسان الحال في طرابلسودمشق وصنعاء في اتهام «الغرف السوداء» في تل أبيب وباريس ولندن وواشنطن...إلخ. وهو خطاب معطوف بوتيرة مملة على العزف على وتر الممانعة والمقاومة، وإنتاج شعارات العروبة والقومية والوحدة. من حق تلك الأنظمة أن تستخدم ما تجيده من وسائل للاحتفاظ بمكسب السلطة. وقد نفهم لجوء تلك النظم إلى أقصى وأحدث طبعات الشعبوية لتسويق قضيتها في الدفاع عن الوجود، وفي تحري البقاء. لكننا لا شك نلمس علّة العقل العربي في إلتهاء المعارضة (أو بعضها) في نقاش قضايا خارج السياق وبعيدة عن لب المسار الراهن وأهدافه. من العبث أن نطيح بلوبيات الضغط (سواء في شكل منظمات حكومية أو غير حكومية) والتي تنبري في هذه العاصمة الغربية أو تلك مناصرة لقضايا شعوبنا المنتفضة راهناً. وآلية هذه الإطاحة تغرف من مكيال علاقة هذه اللوبيات بمسائل وقضايا الصراع العربي - الاسرائيلي التي تنتمي الى منطق وسياق تاريخي مختلف. فمن العبث ان تتطوع المعارضات العربية، وفي شكل مجاني واحياناً من دون استدراج، في الوقوع في فخ إجترار منطق ما برحت انظمة العرب تتحفنا به منذ عقود. أمام المعارضة العربية في حراكها الميداني الراهن خيارات. خيار التسوية وما يعنيه ذلك من قبول ببقاء الأنظمة بعللها ورموزها وسلوكها وخطبها تحت شعار وقف التدخل الخارجي والتطبيع... إلخ (علماً أن تلك التسويات لطالما يتم مباركتها من هذا الخارج). أو التمسك بشعارات الإسقاط والرحيل، وما قد يواكب ذلك من تدخلات دولية وإقليمية محتملة. وفي كل الأحوال يجب الإقرار بتفاعل الخارج ومصالحه مع أمزجتنا التي نريدها محلية بيتة مستقلة. من العيب اعتبار أن الشعوب العربية المنتفضة ستأتي بأنظمة تطبيعية خانعة (يكفي مراقبة القلق الإسرائيلي). ومن المشين أن يتم اعتبار أن التاريخ متوقف على نظام بعينه وعلى زعيم بعينه. فلنتعلم أن لا نعيش لوحدنا، وأن نقتنع أن العالم قرية كبرى وأن التفاعل العالمي أضحى سمة الكون الحديث، وأن التغيير والتسوية، وما هو نسبي وما هو مطلق، يتم وفق توازنات كبرى في إمكان عالمنا العربي أن يجاريها ويحسن شروط التواجد فيها. علمتنا الانظمة السياسية العربية أننا قوم ضغفاء تلتهمنا المؤامرات، ومصالحنا لقمة سائغة لبارونات الأرض. فهل تعلمنا ثورات العرب أننا نجيد التعملق، ونحسن إدارة العلاقات مع العالم، ونجيد الإستفادة من المناصر حتى الذروة ونقوى على مناكفة الخصم حتى الذروة؟ أو لا يستحق منا التطور التاريخي الراهن اسثناء في مسار عقل عربي ساكن؟ * صحافي وكاتب لبناني