ما أن انتشر عشرات المقاتلين من تنظيم «داعش» بثيابهم المعروفة في شوارع الموصل، حتى انسحب آلاف الجنود وعناصر الشرطة مُخْلِين المدينة كلها من دون مقاومة، ومخلِّفين وراءهم أسلحتهم ومعداتهم ومركباتهم، فيما بدأ النازحون يطرقون الأبواب بحثاً عن مكان آمن. ولم يكتف التنظيم بالموصل بل سيطر على محافظة نينوى كلها وأزال الحدود بين العراق وسورية في معبر اليعربية. لكن قدرة التنظيم على الاحتفاظ بالمدينة لفترات طويلة تبدو صعبة، فالموصل بعمقها المعنوي والسكاني (ثاني أكبر مدينة عراقية بعد بغداد) ليست إدارتها لفترات طويلة بالأمر السهل، ما دفع «داعش» إلى محاولة تطمين السكان وإعلان رغبته في فتح حوارات مع الوجهاء وشيوخ العشائر ورجال الدين. وبدت بغداد التي تلقت خبر انهيار الجيش وهروب كبار قادته في حالة صدمة، لم يخفف منها إعلان رئيس الوزراء نوري المالكي الاستنفار العام، ولا دعوته البرلمان إلى إعلان الطوارئ، وهذا صعب التنفيذ، نظراً إلى حاجة مثل هذا القرار إلى ثلثي الأعضاء. وقد دعا رئيس البرلمان أسامة النجيفي النواب إلى اجتماع استثنائي الخميس. المعلومات التي حصلت عليها «الحياة» عصر امس من داخل الموصل تؤكد تلقي عدد من رجال الدين والوجهاء وشيوخ العشائر في المدينة، دعوات إلى اجتماع مع قادة «داعش»، فضلاً عن اتصاله بضباط من الجيش السابق للحصول على «البيعة» للدولة الإسلامية، على غرار ما فعل في أمكنة أخرى في سورية والعراق، غير أن شخصيات عشائرية استبعدت ذلك، ورجحت أن يحاول التنظيم إشراك أهالي المدينة في إدارتها، لإثبات أن ما يحصل «ثورة شعبية»، ولمنحه فرصة لاستغلال مقاتليه في عمليات جديدة. أهالي الموصل الذين فروا منذ أن دخلت أولى أرتال «داعش» المسلحة أحياء 17 تموز والنجار والمشرفية واليرموك وتل الرمان، كانوا شهوداً على مغادرة الجيش تلك الأحياء، تمهيداً للانسحاب الكامل من المدينة، ويتحدث الجنود الفارون بدورهم عن صدور أوامر انسحاب غامضة من القيادة وعن اختفاء آمري الوحدات العسكرية بشكل مفاجئ. وخلال ساعات، تمكن مقاتلو «داعش»، الذين يؤكد السكان أنهم خليط من جنسيات عراقية وأجنبية، من السيطرة بالفعل على مقرات الحكومة المحلية ومطار الموصل والمصارف والمؤسسات الرسمية والسجون، التي أطلقوا منها قرابة 1300 معتقل. المالكي، الذي طالب أمس البرلمان بإعلان الطوارئ ودعا المنظمات الإقليمية والدولية إلى دعم العراق، علَّق بدوره عبر الناطق باسمه علي الموسوي في بيان على انهيار الجيش بالقول إن «القيادة العامة للقوات المسلحة أصدرت تعليمات لمحاسبة من يثبت تخاذلهم وفقاً لقانون العقوبات العسكري». وعلى رغم أن رئيس البرلمان المتحدر من الموصل أسامة النجيفي أبدى استعداده للجلوس مع المالكي، ودعا إلى تدخل قوات «البيشمركة» الكردية لتحرير المدينة، غير أنه لم يخف مخاوفه من تقدم «داعش» باتجاه بغداد، بعدما احتل مسلحوه أمس مناطق بيجي والصينية في محافظة صلاح الدين، كما تمددوا غرباً باتجاه معبر ربيعة وسيطروا على جانبي الحدود العراقية -السورية، وإلى الشرق حيث منطقة الشرقاط المحاذية لإقليم كردستان والقريبة من صلاح الدين والتي شهدت اشتباكات عنيفة مساء أمس. السيناريو الأكثر ترجيحاً لدى القادة الأمنيين في بغداد أن «داعش» سيحاول استثمار انهيار القوات لإكمال قبضته على الحدود العراقية- السورية غرباً ثم التقدم باتجاه محافظة صلاح الدين ليغدو على مشارف بغداد، مستعيناً بخلاياه الناشطة في محيط العاصمة، وهي تمتلك خطوط الاتصال والدعم اللوجستي مع الأنبار شرقاً، ومحافظتي ديالى وكركوك غرباً. إلى ذلك، أثار هذا الحدث الكبير ردود فعل عالمية، فقالت الناطقة باسم الخارجية الأميركية جنيفر بساكي إن الولاياتالمتحدة تعتبر مقاتلي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» يهددون كل منطقة الشرق الأوسط، وإن واشنطن تدعم «رداً قوياً ومنسقاً» على هجوم الموصل ومستعدة لتقديم «كل المساعدة للعراق». وأعرب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، عن قلقه «البالغ»، ودعا الناطق باسمه ستيفان دوجاريك العراقيين إلى التوحد لمواجهة هذا الخطر.