كثيرة كانت الغرف السوداء في تلك الحدائق الخضراء الواسعة المعطّرة بالياسمين في «بينالي البندقية» في دورته الثالثة والخمسين هذه السنة. ف «صناعة العالم» التي اقترحها كعنوان لدورته الناقد الأدبي وعالم الفلسفة السويدي دانييل بيرنهام - أصغر من شغل مسؤولية «البينالي» منذ قيامه كأهم مهرجان للفن المعاصر- «تقتضي أولاً أن نهدم من اجل أن نبني عالماً جديداً»، على حد قوله. ويمكن أن تكون تلك المرايا ال 17 المكسورة الكبيرة لمايكل أنجلو، التي نصبت عند مدخل جناح البندقية خير ترجمة للشعار. ولكن هذا العالم الكبير الذي أراد بيرنهام أن يصنعه، غرق في السوداوية. وبصرف النظر عن التفاوت الكبير في مقاربات هذا العنوان في المستوى والأفكار والرؤيا بين الأجنحة، إلا أن سؤال الموت الكلاسيكي يعود قوياً، الحروب والأزمات الاقتصادية والعولمة والتكنولوجيا تصبح سبباً إضافياً للموت وللفراغ، وتطرح هاجس الوقت والمستقبل، لا سيما في أجنحة الدول «العظمى» الأقدم باعاً في «البينالي»، والتي يتركز غالبيتها في حديقة «جيارديني» الرئيسة. وتأتي سوداوية أجنحة دول «العالم الثالث» أو الدول الفقيرة، من هموم الفقر والمهاجرين والحريات، كما في الجناح البولندي حيث تحوّل العمال المهاجرون، الذين تصلنا أصواتهم إلى خيالات غير واضحة المعالم، تجعلهم أحياء ولكن غير مرئيين. قد يكون جناح «دول الشمال» (جمع للمرة الأولى دول الشمال الأوروبي الدنمارك وفنلندا والنروج والسويد في جناح واحد) الذي استقر عند مدخل «جيارديني» الشمالي والذي حمل عنوان «الجامعين» (the collectors) هو الجناح الأكثر شهرة في «البينالي»، فقد أحدث الصدمة المبكّّرة لزائريه، حيث يطفو عند مدخله رجل بثيابه الكاملة، وقد نزع عند حافة المسبح حذاءه وجواربه. هو السيد «بي» (Mr B) الافتراضي الذي قضى منتحراً قبل أن ينهي روايته الايروتيكية، تاركاً خلفه منزلاً مملوءاً بالأشياء المجمّعة، التي أعدّها أكثر من عشرة فنانين، كلها تخرج من ميوله الجنسية وصراعه مع الوقت ومع الأشياء المجمعة. يقول الفنانان المشرفان على الجناح ألمغرين ودراغسيت: «إنه السؤال حول الأشياء التي نجمعها لنحتمي بها من الفراغ والتي تؤدي بنا في النهاية إلى الفراغ ذاته، الرجل المنتحر هو مقدمة ليس للمنزل الدنماركي الهيبي فقط (منزل السيد بي) ولكن أيضاً للمنزل السويدي الآخر (التابع للجناح نفسه) الذي تتقدمه لافتة كبيرة «للبيع»، وهو منزل كلاسيكي قديم لزوجين اصطدما بالأزمة الاقتصادية». «جناح الشمال» مشغول بين أجواء بيرغمان وهيتشكوك السينمائية، يقدم بشقيه الموت نهاية، وسط مناخات من الفراغ والسوداوية والغرابة والإثارة. على بعد امتار فقط، كان صراع الدم والبترول، اللذين كانا ينسكبان في احدى غرف الجناح الروسي، في تمثال «نصر سومطرة» (التمثال الاغريقي الموجود في متحف اللوفر) ليعكسا الصراع في العالم، إنها دماء الجنود الروس الذين ذهبوا في حربهم في الشيشان ل «حفنة من البترول» في عمل للفنان اندريه مولودكين. قد يكون الجناح الروسي الذي اقيم في طابقين تحت عنوان «الانتصار على المستقبل» من أهم العروض في البينالي، ففيه نلاحظ صراعاً بين الأزمنة والأفكار والايديويوجيات في طموح للانتصار على الخوف من المستقبل القاتم. وفي إحدى غرفه نرى يداً تتحرك من قلب معطف قديم وقطة تموء وسط المنزل المتعفن، وفي غرفة أخرى كبيرة يرسم بافيل ببرستان اقتراحات للمستقبل، تجعل العالم عام 4112 على شكل حلزوني، والثقافة الاسلامية مركزاً للعالم في العام 2118، وتحول البشر إلى اشكال هندسية في العام 2231... أسئلة الزمن والمسافات والتكنولوجيا والإنسان يطرحها ايضاً على طريقته الجناح الاسترالي من خلال «المحركات»، حيث تنتصب أمام الجناح سيارة وقد ركز محركها على سطحها لا داخلها، فالطريق الاسفلتية في الافلام القصيرة المعروضة في الجناح، طويلة فارغة، لا يقطعها الا صوت محرك سيارة او دراجة نارية، ووسط هذا الفراغ والمكان المفتوح، «كنغورو» ميت عند حافة الطريق، يستوقف راكب الدراجة فيحمله ويهدهده طويلاً كطفل، ثم يعيده إلى مكانه ليكمل موته ويكمل العابر طريقه. لكن الوقت والمستقبل يبدوان أكثر رعباً في عرض اليابانية ميوا ياناغي التي نصبت فوق جناحها خيمة سوداء، هي نفسها التي تعرضها مصغرة داخل جناحها المطلي بالأسود أيضاً والذي يحوي لوحات عملاقة لبطلات فيلمها، وفي الخيمة يُعرض فيلم لرقص نساء في ارض تمتد كالزمن السحيق حول خيمة، لكل منهن قطعة مترهلة معينة في جسدها الفتي، في اختراق واضح للزمن، وفي تصوير مرعب للوقت... الجناح الفرنسي ذهب إلى أقصى العدمية والتجريد في عمل للفنان كلود ليفيك، يصور سقوط الاوهام من خلال ثلاث غرف متشابهة مظلمة كسجون تفصلها عن المشاهد أبواب حديد، يتسلط فيها الضوء فقط على علم كبير فضي يرفرف، غرف سوداء لا يقطع صمتها سوى صوت «المكيف» المسلط على العلم كي يرفرف، انه المشهد عشية الثورة، ماذا بقي من كل تلك الأوهام التي سقطت. في البينالي، مئات الأسئلة، ورداً على الموت، هناك عودة للأرض الأم وطينها، كعمل البلجيكي جيف غيس على نباتات الشوارع المنسية (والذي كان في المناسبة الوحيد الذي قدم ترجمة بالعربية لنصه المكتوب)، وعمل الفنان الاسباني مايكل بارشيلو على طين الأرض والبحار في لوحاته الكبيرة ومجسماته الفنية...