يشعر محمود أحمدي نجاد بأنه محاط بأعداء من كل جانب ولغة جسده تعبر عن هذا الشعور. في صوره على مدى الاسابيع الماضية، تتحدث لغة جسده لغة دفاعية باردة وذراعاه وقدماه «مخنوقتان». في صور ذكرى وفاة مؤسس الجمهورية الاسلامية آيه الله الخميني الشهر الماضي، يرى أحمدي نجاد رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني قادماً فلا يقوم لمصافحته. ينظر إليه نظرة جامدة، بينما يقوم حسن الخميني ورئيس المؤسسة القضائية صادق لاريجاني ورجل الدين آية الله جنتي ورئيس البرلمان علي لاريجاني ورجل الدين آيه الله محمود شهرودي لتحية رفسنجاني. صادق لاريجاني يتحدث مع أحمدي نجاد وقد قبض على ذراعيه كأنه «ينصح». رفسنجاني يتحامل على نفسه ويمد رأسه ويلف جسده بطريقة حمائية وينظر نحو أحمدي نجاد الذي لا يعطي اي تعبير. في النهاية يغادر الرئيس وحيداً، فيما منافسوه ومنتقدوه يتجاذبون اطراف الحديث. خلال استقبال الرئيس السوداني عمر البشير، يجلس أحمدي نجاد بحضور المرشد الأعلى آية الله على خامنئي وقد التفت قدماه بطريقه تعكس شعوراً بالضيق وعدم الراحة. لغة الصور لا تكذب. الطبقة السياسية «المحافظة» لم تعد منسجمة. فلماذا؟ يرى الرئيس الإيراني المرشد الأعلى يعيد ترتيب الخريطة السياسية لمرحلة «ما بعد أحمدي نجاد»، فيشعر بالخيانة، فهو كان حتى حزيران (يونيو) 2009 خيار المرشد الواضح لتقويض مشروع الاصلاحيين «النقدي»، بمشروع أحمدي نجاد «النقي». لكن أزمة 2009 غيرت كل شيء. بات خامنئي يشعر ان الرئيس «نقطة ضعف»، فانشغل في الإعداد لمرحلة ما بعد احمدي نجاد، لكن، تحت عين الرئيس الراصدة. أحمدي نجاد ليس طبعاً محمد خاتمي، سيأخذ الضربة «بشكل فلسفي»، أحمدي نجاد ليس فيلسوف فكر، بل مقاتل ميدان. فيلسوف الفكر «زاهد» في الحكم والسلطة، مقاتل الميدان «نهم» لكل هذا. ردّ الرئيس أظهر «السياسي النهم» داخله، فالاعتدال الذي ادخله أحمدي نجاد على خطابه الاجتماعي ليصبح اكثر قبولاً لدى الطبقة الوسطى، وانتقاده تدخل الحرس الثوري في السياسة وخطابه عن عودة الامام الغائب والتحضير لهذه العودة يقع في اطار «مغانم السياسة المادية». لفهم طبيعة التحولات في خطاب الرئيس، وعلاقته مع المرشد، علينا تصور ان هناك «اثنين احمدي نجاد»، كلاهما «صنيعة» و «رد فعل» المحافظين على صعود الحركة الاصلاحية في التسعينات. أحمدي نجاد الأول (2005 إلى 2009): جاء رداً على «ماديات» تيار رفسنجاني و «تساؤلات» تيار خاتمي. أحمدي نجاد الثاني (2009 وحتى الآن): جاء رداً على أكبر أزمة تواجهها الجمهورية الإسلامية منذ ثورة 1979. الأول يمثل السياسي المتقشف الساعي إلى إعادة البراءة الاولى للجمهورية الإسلامية، وإعادة «الطاعة المطلقة» للولي الفقيه، والتشديد على العداء للغرب. عندما تسأل الكثير من الايرانيين عن آية الله الخميني يرددون «الإمام كان نقياً... ليس مثل الآخرين». هذا ما أراد أحمدي نجاد احياءه. لم يركز الرئيس على التنمية أو الإدارة الاقتصادية. وعندما أنتخب عام 2005 سأل عن تعين مستشار اقتصادي فقال «لماذا... يمكنني ان أسأل البائع في الشارع». يشبه هذا في منطقه قناعة الخميني ان «الاقتصاد للحمير»، وقوله: «لم نقم بالثورة من أجل البطيخ»، بمعنى اننا لم نقم بها من أجل رغد العيش. كان أحمدي نجاد رد المرشد على تيار رفسنجاني (1989 إلى 1997) الذي اعطى الاولوية للاعمار والتنمية وأزال لافتات الحرب العراقية - الايرانية من الشوارع، ما صدم المحافظين الذين شعروا بخطورة ان يبدأ الشعب التعامل مع الدولة بمقدار ما تقدمه من معدلات نمو، وليس بمعدلات ما تقدمه من «شهداء». فكانت الحرب على رفسنجاني التي اشترك فيها المرشد نفسه. ثم كان أحمدي نجاد رد المرشد على خاتمي وتياره (1997 إلى 2005). ذلك التيار النقدي الذي طرح تساؤلات علنية حول حدود صلاحية المرشد. فبدأت عملية «جز» الاصلاحيين من المشهد السياسي. اما أحمدي نجاد الثاني، فهو شخصية مختلفة تماماً. هو صنيعة أزمة عام 2009. فقد فوجئ الرئيس وصدم بقدرة الاصلاحيين على تحريك الشارع في شكل لم تشهده إيران منذ 1979. شعر بالصدمة لأن «أسئلة» الاصلاحيين ولدت زخماً ومشاعر في المجتمع لم تولدها «اجابات» المحافظين. حجم الانتقادات التي وجهت إليه وإلى المرشد تركت كليهما وحيداً. وكان واضحاً ان المرشد، في مسعى لإعادة مكانته ك «قائد لإيران» سيغير من طبيعة علاقته مع الرئيس لحماية «ولاية الفقيه» من الاضرار التي لحقت بها. لكن مصادر إيرانية من الاصلاحيين والمحافظين ترى ان أحمدي نجاد كان سيتحرك في كل الحالات ل «إعادة الشعبية لرئاسته الثانية»، في جهد منفصل عن جهد المرشد لحماية مؤسسة «ولاية الفقيه». «تعب» من الثورة لإعادة الشعبية لرئاسته الثانية، مزج الرئيس القومية باليمينية الدينية بالسياسات الشعبوية على أمل جذب اطياف من الطبقة الوسطى والشباب والنساء. سياساته الاجتماعية هدفها كان واضحاً: استمالة شرائح الطبقة الوسطى التي دعمت مير حسين موسوي في الانتخابات. فقد أعلن رفضه لفكرة فصل الفتيات والفتيان في الجامعات ووصفها ب «السطحية» و «الغباء البيروقراطي». وانتقد حملة التشديد على ملابس النساء، وقال إن هناك اموراً أكثر أهمية للانشغال بها. ثم وعد بقرب السماح بدخول النساء إلى الملاعب الرياضية. ثم لف أحمدي نجاد خطابه السياسي بالقومية. باتت «القومية الإيرانية» أهم من الاسلام. واستخدام القومية في زمن الازمات ليس جديداً على الثورة، فعقب نجاحها مباشرة لم يعط الخميني اهتماما للقومية. وكان يقول إن «الاسلام صفع على وجهه بسبب القومية». لكن مع اندلاع الحرب مع العراق، عاد الخميني إلى القومية وتعبير «الامة الإيرانية العظيمة» كان جزءاً من خطاب مزج فيه الدين بالقومية. السياسات الاجتماعية «الودية» والخطاب القومي للرئيس لم يهدد المرشد بشكل مباشر، لكن خطابه عن الامام الغائب كان راديكالياً ومصدر خطر على خامنئي. يقول أحمدي نجاد إن عودة الامام الغائب باتت قريبة، وإنه لا بد من التحضير لهذه العودة. لكن عودة الامام الغائب والتحضير له تعني ان ممثله على الارض، الولي الفقيه، لم يعد له ضرورة أو دور. هناك طبعاًً جانب سياسي لهذا الطرح لم يخطئ المحافظون قراءته. فمثلاً قال حجة الاسلام مجتبى ذو النور النائب السابق لممثل المرشد الاعلى في الحرس الثوري في خطبة له في مسجد «آل البيت» في قم قبل نحو اسبوعين « تيار الانحراف لا ينكر حكم الولي الفقيه، إلا انهم يؤمنون انه في وقت التحضير لعودة ولى الزمان، فإنه ليس هناك حاجة لممثل ولى الزمان في الارض (المرشد الاعلى)». الهجمة التي تعرض لها أحمدي نجاد وتياره بوصفه «انحرافياً» وانه خطر على الجمهورية الاسلامية وان اعضاءه الذين اعتقلوا مؤخراً وجد في مكاتبهم «نجمة داود»، وان أحمدي نجاد يريد تصعيد رئيس مكتبه اصفنديار رحيم مشائي للرئاسة، كل هذه الاتهامات مثيرة للسخرية، فأحمدي نجاد «ليس مؤسسة». هذه القدرات يمتلكها المرشد وحده ومن خلفه الحرس الثوري. هاتان هما «المؤسساتان» القويتان في ايران. وهذا النوع من الاتهامات يخفي حقيقة الصراع، فهو صراع بين المرشد والرئيس على الشرعية والشعبية بعد أزمة 2009. حجة الاسلام حميد رسايي الذي عمل مع الرئيس الإيراني، قال قبل أيام في توضيح «حسابات» الرئيس وفريقه من المواجهة مع المرشد «هم يعتقدون ان غالبية الايرانيين باتت متعبة من الثورة. وهم لهذا وصلوا إلى استنتاج غير مكتوب وهي انهم يجب ان لا يرددوا الشعارات الثورية ولا يجب ان يكون لهم خطاب ايديولوجي. بل يجب ان يستخدموا الاشخاص المنتقدين لتيار اليوتوبيا في النظام». من يلبس القبعة؟ يقول آية الله علام الهدى إمام صلاة الجمعة في مدينة مشهد إن المرشد «يدير بنفسه ازمة تيار الانحراف»، لكن الازمة تتفاقم ولا تهدأ. فحتى هذا الاسبوع تم اعتقال مقربين جدد من الرئيس الإيراني وما زالت مذكرة الاستجواب التي قدمها 100 نائب برلماني ضد الحكومة موجودة في البرلمان، وحملة الانتقاد والتهديد ضده قوية على المواقع الرسمية. أحمدي نجاد من جهته وسع من دائرة اعداءه بشكل لافت ليمس الحرس الثوري نفسه. فقد انتقد تدخل الحرس في الحياة السياسية، وقال إن الخميني منع مشاركة الحرس في السياسة. فرد الحرس «الدستور الإيراني يعطي الحرس مهمة الدفاع عن الثورة الاسلامية وفي اطار هذه المسؤولية يمارس الحرس دوره السياسي». ثم اتهم أحمدي نجاد الحرس بالتورط في تهريب سلع بشكل غير شرعي، قائلاً «حين يعتبر أفراد أنهم اسمى من القانون، ناسبين إلى انفسهم حقوقاً يتحول ذلك إلى مركز فساد»، فرد الحرس «هذا النقاش نوع عن الالهاء وتعبر عن توجهات فصيل سياسي». وفي اطار الحرب المفتوحة، باتت أسماء منافسي الرئيس تتكرر في شكل إيجابي في وسائل الاعلام الرسمية، فيما يرد اسمه هو بشكل نقدي. فرئيس الحرس الثوري محمد علي جعفري لم يستبعد امكانية عودة خاتمي للساحة السياسية، إذا غير مواقفه أثر ازمة 2009. وسمحت السلطات بعودة صحيفة «اعتماد» المقربة من خاتمي والتي اغلقت اثر ازمة الانتخابات الاخيرة. كما ان موقع اخباري مقرب من الحرس الثوري، فعل شيئاً لم يفعله منذ عامين، نشر تصريحات لرفسنجاني مستخدماً وصف «آية الله». وحتى شكل الخريطة السياسية داخل التيار المحافظ يتغير على نحو يؤدي إلى عزلة الرئيس، فقد اجتمع عمدة طهران محمد باقر قاليباف، مع رئيس البرلمان لاريجاني قبل نحو اسبوعين لتشكيل جبهة موحدة في الانتخابات التشريعية المقبلة مع سكرتير مجمع تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي. تلك الحرب الواسعة على كل الجبهات ضد احمدي نجاد تحمل رسالة أساسية، لخصها محمد كريمي راد عضو البرلمان والقائد السابق في الحرس الثوري بقوله «إذا طلب القائد ان تحضر له قبعة. فأنت تعرف ماذا عليك احضاره... بغض النظر عن من يلبس القبعة». وتؤكد مصادر إيرانية مطلعة إن خامنئي «ندم» على دعمه للرئيس، وهو لن يوفر خياراً لحماية الاستقرار الداخلي. خسائر احمدي نجاد لن تتحول تلقائياً الى مكاسب للاصلاحيين. إذ يظل تفضيل المرشد هو لشخصية من داخل التيار المحافظ. وهذه هي المعضلة لأن إعادة الشعبية للجمهورية الاسلامية تحت قيادة خامنئي تستلزم مراجعات حول دور الشعب في السياسة. فإيران تعاني من الازمة الحالية بسبب أزمة عام 2009. ويتذكر الاكاديمي البريطاني الراحل فريد هاليدي انه في زيارة إلى إيران بعد أشهر قليلة من الثورة عام 1979 بدعوة من دار طباعة «امير كبير»، توجه إلى صحيفة ليبرالية. وخلال وجوده هناك وجد قوات الامن تغلق الصحيفة (في اطار المواجهات بين الليبراليين واليساريين مع التيار الديني). فسأل احد رجال الامن: ماذا تفعلون؟ فقال: نغلق تلك الصحيفة، أنها هراء. فرد هاليدي: لكن، يقرأها مليونا شخص. فأجابه: هؤلاء أيضاً هراء.