أن تكون فاتورة استيراد مصادر الطاقة ومشتقاتها مرتفعة في المغرب، أمر لا يثير الاستغراب، لأن هذا البلد لا يتمتع بثروات نفط وغاز. أما أن تكون فاتورته الخاصة باستيراد الأغذية، وفي مقدمها المحاصيل الإستراتيجية كالحبوب، مرتفعة، فأمر ليست له مبررات. ويدعم هذا القول حقيقة أن هذا البلد يتمتع بمساحات زراعية واسعة يمكنها إنتاج أضعاف ما يحتاج إليه سكانه من الأغذية، خصوصاً عند احتساب البوادي التي يمكن استغلالها لمزروعات تتحمل الجفاف، كالنخيل والصبار، وأخرى يمكن تطويرها من خلال البحث والتجربة. ومن باب الإشارة إلى الطاقات غير المستغلة في الزراعة المغربية، نشير إلى أن المساحات الزراعية في المغرب التي تزيد على 95 ألف كيلومتر مربع، تعادل ما يقارب ثلاثة أمثال مساحة هولندا الإجمالية البالغة نحو 34 ألف كيلومتر مربع. وللمفارقة، لا تحقق الزراعة الهولندية فقط الاكتفاء الذاتي من منتجاتها للهولنديين البالغ عددهم أكثر من 16 مليون شخص، بل تصدرها أيضاً إلى أكثر من نصف بلدان العالم. وفي المقابل، لم يتمكن المغرب حتى الآن من تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الإستراتيجية كالحبوب، خصوصاً القمح الذي لا يدخل فقط في صناعات غذائية كثيرة، بل يشكل أيضاً مادة الخبز التي تدخل في الوجبات الغذائية اليومية للمغاربة الذين يقدر عددهم بنحو 33 مليون شخص. إن استمرار العجز الغذائي في المغرب، على رغم التحسن في سده خلال السنوات القليلة الماضية، لا يعود إذاً إلى عدم توافر الأراضي الزراعية بمقدار ما يعود إلى عوامل أخرى، من أبرزها السياسات الزراعية التي فشلت في إيجاد الحوافز اللازمة لاستغلال هذه الأراضي المترامية. وهذا ما يلفت نظر المسافر بين الدارالبيضاء على الساحل الأطلسي وتطوان على شاطئ البحر المتوسط حيث تنتشر مساحات غير مستغلة على مد النظر. ويفيد الحديث مع معنيين بالأمر، بأن هناك مشكلات كثيرة تعيق استغلال هذه الأراضي أبرزها الجفاف وضعف الحوافز التي تقدم للمزارعين، مثل ضمان حد أدنى من الأسعار، وصعوبة حصولهم على قروض ميسرة حتى بالنسبة إلى المحاصيل الإستراتيجية كالحبوب. وإذا حصلوا على الأخيرة، فإن أسعار فوائدها والرشاوى والبيروقراطية المرتبطة بها لا تطاق، بحسب تعبير زميلة مغربية مطلعة. وتقول الزميلة بناء على خبرات ميدانية: «إذا حصل الفلاح على قروض لمرة واحدة، قد يعني ذلك عدم إفلاته من قبضتها». وبالنسبة إلى أصحاب الملكيات الكبيرة، يلاحَظ نقص في روح المبادرة لاستغلال هذه الملكيات على أساس جدوى اقتصادية تجلب لهم الأرباح وتساعد البلاد في حل مشكلة البطالة. وإذا استُغلت هذه الأخيرة، تركز المشاريع على إنتاج الطماطم وخضار أخرى موجهة إلى التصدير إلى الأسواق الخارجية. أما أصحاب الملكيات الصغيرة فيستغلونها بطرق تقليدية ذات إنتاجية ضعيفة ومرتبطة بهطول الأمطار. وفي هذا السياق يُلاحظ تأخر وعجز كبيران في بناء شبكة الري الحديثة وفي تطوير بذور ومزروعات قادرة على مواجهة الجفاف على رغم أهميتها الحيوية للبلاد على ضوء التغيرات المناخية. وتعمل السلطات المغربية المعنية على تحسين كفاءة القطاع الزراعي في إطار برنامج «المغرب الأخضر» الذي بدأ قبل ثلاث سنوات ويستمر حتى عام 2020 من خلال تأمين استثمارات محلية وأجنبية بقيمة 20 بليون دولار لمضاعفة إنتاج الحبوب والخضار والحمضيات والزيتون ومواجهة الطلب المتزايد عليها عاماً بعد عام. وتبدو الحكومة المغربية حالياً متحمسة أكثر من أي وقت لهذا المشروع الذي نجح بعد ثلاث سنوات من إطلاقه في استثمار أكثر من بليوني دولار ساهمت في شكل ملموس في زيادة الصادرات المغربية من الخضار والحمضيات، غير أنها عجزت حتى الآن في سد العجز على صعيد إنتاج الحبوب وفي مقدمها القمح. وتذهب التقديرات إلى أن المغرب يستورد سنوياً منها ما يعادل ثلث إلى 40 في المئة من حاجاته. ويعزو مطلعون على شؤون الزراعة المغربية، التي تساهم بنحو 17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وتشغل أكثر من ثلث القوى العاملة، هذا العجز إلى ضعف تشجيع المزارعين الصغار في الأرياف لمصلحة تشجيع المشاريع الموجهة للتصدير. ولا يتمثل هذا الضعف في عدم تأمين القروض والبذور والأسمدة والمعدات بأسعار معقولة، بل في تدني مستوى البنية التحتية اللازمة للنقل والتخزين والتوضيب والتصنيع والتسويق بأسعار تثبت المزارعين في أراضيهم بدلاً من دفع كثيرين منهم إلى هجرها. ومن تبعات ذلك ارتهانهم لاستهلاك ما لا ينتجونه بدلاً من تحقيق الاكتفاء الذاتي في مناطق عيشهم. وفي حال لم تتمكن السلطات المعنية من تغيير هذا الوضع، سيبقى نطاق العجز الغذائي ومعه الفقر وسوء التغذية إلى اتساع، خصوصاً في ضوء تزايد السكان والجفاف وارتفاع الأسعار العالمية للأغذية. ومن شأن ذلك أن يشكل قنبلة اجتماعية موقوتة قد تتسبب باندلاع احتجاجات شعبية تهدد الاستقرار السياسي على غرار انتفاضات الخبز التي شهدها المغرب خلال العقود الثلاثة الماضية. أخيراً، لا بد من تأكيد أهمية تصدير المنتجات الزراعية للاقتصاد الوطني، غير أن ضمان الاكتفاء الذاتي منها أهم بكثير، لأن توافرها في الأسواق الخارجية ليس مضموناً على الدوام، خصوصاً في زمن الكوارث الطبيعية وتلك التي يصنعها الإنسان. ولعل أقرب مثال إلى الأذهان حظر روسيا في الصيف الماضي تصدير القمح إثر الحرائق التي أدت إلى إتلاف كميات كبيرة من المساحات المزروعة به. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - برلين