هي زاوية قياس حجم الحراك السياسي القائم. فهو حقاً غير مسبوق، حتى بالمقارنة مع فترة التغييرات الكبرى خلال عقد الخمسينات، التي افتتحها عبدالناصر، ثم شهدت الوحدة المصرية - السورية، والثورة العراقية، وانطلاق حركة التحرر الوطني الجزائرية، والعدوان الثلاثي... حتى بالمقارنة مع الفترة الأسبق والتي كانت تتعلق بمجابهة الانتدابات الأجنبية، وتبلور الضرورة المتعلقة بالتصدي لموضوع التشكل الوطني في كل بلد، وصلة ذلك بالمسألة القومية بمعناها السياسي (أي العروبي والإسلامي)، ما لا يخفى تعقيده على أحد... فبخلاف تلك الفترات جميعاً، هناك اليوم فاعل سياسي - اجتماعي يفرض نفسه على الساحة، ويحاور بلين أو بحزم (وفق الظروف)، الأصعدة التي اعتادت احتكار «السياسة» بصفتها شأن علية القوم والمتنفذين، وبصفتها ايضاً «لعبة أمم» على ما كانت تُسمى التدخلات الخارجية. ذلك الفاعل هو ببساطة عموم الناس. اسمع الاعتراضات: ف «عموم الناس» لا وجود لهم بالمعنى السياسي، وهم منشغلون بمشكلاتهم الحياتية الداهمة، ولا يهمهم ما يجري، أو لا يستطيعون ولا يملكون متابعته. وثمة من يقول إنهم «غوغاء» في أحسن الأحوال، يمكن التلاعب بهم لأغراض مخطط لها. وآخرون يقولون إن المفهوم يغطي نوعاً من الشعبوية الديماغوجية، التي ستنتهي على أية حال في إعادة الموقف الى المتحكمين التقليديين بالسياسة. وفي كل ذلك شيء من الصحة. ولكن! (إذ هناك «لكن»). في مثال أول، ليس المنجز الأساس هو الإطاحة بالرئيسين السابقين بن علي ومبارك، على رغم ضخامة الحدثين وما يعنيان من تغيير إجباري لعناصر مهمة في مصير البلدين، ولتوازنات الموقف في المنطقة. المنجز الأساس ما زال يتحقق أمام أعيننا في دينامية تفاعلية مدهشة: من جهة، الاعتراضات التي تواجه محاولات التسويف أو الارتداد، والتحركات العامة المصاحبة لها والتي تولد بصورة مستمرة إعادة تشكيل التوازنات المتصارعة. ومن جهة ثانية، اندفاع الألوف الى الانضواء في أطر سياسية، سواء قائمة أصلاً أو يجرى اختراعها، ما يعني تسيّسهم، وما يعني طموحهم الى المشاركة في تسيير الواقع وفق ما يرونه. تنتج عن هذا تغيرات في بنية أحزاب عريقة، ليس أدل عليها بروز ما يقال له «شباب الإخوان» (وشاباته بالمناسبة) في مصر، ومغادرتهم لتلك الانضباطية المقدسة التي كادت تحنّط الحركة، وانتعاش تيارات ليبرالية، منها «الوفد»، ولكن أيضاً التيار المحيط بالبرادعي، وتحول «اللقاء المشترك» في اليمن، على سبيل المثال أيضاً، الى إطار يوشك على توليد المجلس الانتقالي الثوري الذي يضم قوى شديدة الاتساع والتنوع، وحضور أطر قاعدية تشكلت أثناء الثورات في المشهد السياسي، كاتحاد شباب الثورة في مصر الذي يرشح لرئيس الوزراء شخصيات تصلح بنظر أعضائه لتولي مناصب وزارية (!)، والتنسيقيات التونسية التي تؤطر الى هذا الحد أو ذاك تحركات مطلبية واجتماعية وسياسية شديدة الحضور... والعنف أحياناً. والأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وتبرز هذه الظواهر جميعها في شكل مشترك، وإن كان متفاوت النضج، ومتفاوت الخبرة والاستعدادات. يكفي تناول ما يجري في سورية وفي البحرين وفي ليبيا، علاوة على الأمثلة «السهلة» العائدة لمصر وتونس واليمن (وقد أظهرت تجربة هذه الأخيرة نضجاً لا يضاهيه أحد في المنطقة، وهذا برسم «النعرات العنصرية» السائدة!). وهناك بالطبع الأمثلة التي يعتمل في داخلها الحراك بقدر متراوح بين التفجر والهدوء، كأحوال المغرب والجزائر ودول خليجية، بل حتى العراق وفلسطين، حيث وقائع الاحتلالين تضيف خصوصياتها إلى المشهد. وأما لبنان، فيبدو وحده منيعاً على هذا العصف، يستمر في إدارة لعبته الذاتية بطريقة تبعث على الضجر، فيتكلم السيد سعد الحريري عن نفسه بصيغة الغائب التعظيمية، ويعتبر الأرض تدور حول وجوده أو استبعاده من رئاسة الوزراء، التي يوحي مجدداً بأنها بلسمه تجاه خسارته الشخصية تبعاً لاغتيال أبيه. وهو يتناول على هذا المنوال مواضيع كبرى، قد تكون في صلب ما يجري في المحيط، بل أحد مسبباته. ويفعل سواه مثله في بدائية مفجعة. ويكشف ذلك الى حد بعيد، وبعكس ما يبدو ظاهراً، انتظارية لبنانية ربما يصح وصفها بالتبعية للمحيط. لذا، يبدو لبنان، كدينامية ذاتية وليس كمعطيات موضوعية، خارج السياق العام لما يدور في المنطقة. هل ثمة في كل ذلك نوع من الفوضى، على ما يقال أحياناً؟ لا شك، ولكن كيف لأي تغيير أن يتحقق بكل انضباط ومن دون خروج عن الأصول واللياقات والمألوفات؟ أين، في أي ثورة أو عملية انتقالية في العالم، قديماً أو حديثاً، جرت الأحداث بمثل هذا الانضباط المنشود؟ ثم من كان يتوقع الجريان على حرير لمجتمعات عانت من أنظمة استبدادية ساحقة لكل مبادرة مهما قل شأنها، ملغية أي إطار عمل عام، مدخلة الترويع والتيئيس وغسل الدماغ وأنظمة الوشاية والزبائنية والفساد المعمم، صلفة، مفقرة للناس حتى التجويع والإذلال؟ من كان يتوقع أن مجتمعات تحملت كل هذا يمكنها بسرعة تجاوز أمراضها وأعطابها ونواقصها وأن تستأنف السياسة وكأن شيئاً لم يكن؟ هي اليوم تفعل، حاملة معها تلك العلل التي تظهر آثارها في الحركة اليومية وفي الشدائد على السواء. ومن كان يظن غير ذلك فإما مترف غير جاد، أو معدوم الخبرة والوعي، أو مغرض، بينما الواقع يقول إن ثمة شيئاً قيد التكوّن، وهو ككل تكون يحمل صعابه، ويحتوي على احتمال الإجهاض، واحتمال التشوه، كما يحتاج الى الرعاية. لقد شغل العالم العربي، طوال ستة أشهر متواصلة، وسائل الإعلام العالمية بكثافة غير معتادة، وهي تتناوله مذاك إن لم يكن بإعجاب، فباحترام، وتضرب كل الكتابات الجادة مثال ما يجري في العالم العربي في معرض تناولها لأحداث الاحتجاجات في اليونان وإسبانيا وحتى في الصين. لقد غيَّرت العملية الثورية الجارية في المنطقة العربية مقاربة العالم بمجمله للمعطى العربي، بعد عقود من إبداء الاحتقار له والاستخفاف به، على الصعد السياسية والإعلامية العليا، كما على صعيد الصورة المنطبعة عنه في الوجدان العام. ويصح ذلك على كل أمكنة هذه المنطقة وعلى كل ارهاصاتها.