أكدت اكتشافات بعثة سعودية مشتركة مع جامعة توبنغن الألمانية اعتماد السكان في مستوطنة الدوسرية منذ أكثر من 7000 سنة على اقتصاديات البحر بحكم وقوعها على ساحل الخليج العربي، مشيرة إلى حضارات متطورة اقتصاديا تعتمد على الصيد والتجارة البحرية، إذ تم العثور في موقع الدوسرية في محافظة الجبيل بالمنطقة الشرقية على 10 قطع من اللؤلؤ الطبيعي تعود لأكثر من 7000 سنة، وتمثل أقدم ما تم اكتشافه من اللؤلؤ في المملكة حتى الآن، وكذلك العثور على عدد من الخرز والأصداف البحرية. وعلى رغم أن «الدوسرية» الواقعة جنوب الخليج العربي في مدينة الجبيل، مغطاة حالياً بالكثبان الرملية، إلا أن بقايا الأحجار النارية والفخار والعظام والأصداف التي عثر عليها في الموقع تثبت وجود مستوطنات قديمة، إذ تؤكد عظام الحيوانات المكتشفة والتي تمت من خلال فريق مختص بإشراف الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، أن الناس في «الدوسرية» كانوا يربون الأغنام والماعز والأبقار المستأنسة، وكانوا يطاردون الغزلان والحيوانات البرية الأخرى، كما تشير كميات عظام الأسماك الكبيرة في الموقع، إلى استفادة ساكني تلك المستوطنات من الأسماك والثدييات البحرية، بما في ذلك الأطوم والحيتان الصغيرة والمحار، بحيث تتضمن المعثورات أكواماً من محار اللؤلؤ مدفونة في الطبقات الأرضية للموقع. وعثرت «البعثة» في الموقع على قطع أثرية مصنوعة من حجر الصوان، وأدوات حجرية مثل رؤوس سهام متكسرة وقطع فخارية تم إحضارها من جنوب بلاد ما بين النهرين (الجزء الجنوبي من العراق اليوم)، بحيث تم إحضار آلاف الأطباق والأكواب والسلطانيات المزخرفة بشكل رائع إلى «الدوسرية»، والعدد الكبير من المراكب المفتوحة بالموقع يوضح أنها لم تكن تستخدم للنقل فقط، وتؤكد ثروة ورخاء السكان. وتوضح المعثورات أن الصيادين المتمرسين استخدموا القوارب للوصول إلى الساحل الجنوبي لبلاد ما بين النهرين لتبادل الفخار المزخرف وغيره من المنتجات الثمينة، كما تمكنوا من توفير كمية كبيرة من المنتجات الموجودة في الساحل الأوسط من منطقة الخليج خلال الألف الخامس قبل الميلاد مثل السمك المجفف والمحار والمنتجات الحيوانية المحلية. وأسفرت نتائج الأعمال الأثرية به عن سبع طبقات تمثل عددا من المراحل الاستيطانية يرجع أقدمها إلى نهاية الألف السادس ق.م والتي تنتمي إلى حضارة العبيد، وأحدثها إلى منتصف الألف الرابع ق.م وتمثل جميعها المراحل التي مرت بالموقع من الترحال والصيد إلى الاستقرار. وتشير الأعمال الأثرية الحديثة بالموقع إلى وجود نشاط استيطاني كثيف استمر لفترات طويلة، ما يعكس الدور الذي لعبته المنطقة في عصور ما قبل التاريخ منذ العصر الحجري الحديث في الجزيرة العربية، والمتمثل في مدى تأقلم وتكيف الإنسان القديم مع البيئة المحلية في سبيل بقائه وتطوير وسائله ومظاهره المعيشية، وهو يعود بشكل كبير على العوامل الاقتصادية لتلك المجتمعات وعلاقاتها الاجتماعية التي تمتد من جنوب وادي الرافدين حتى وسط الخليج العربي. وتعد آثار الاستيطان البشري في المنطقة الشرقية أكثر وضوح منها في أي جزء من المملكة، والسبب في ذلك يرجع إلى عوامل أهمها الموقع الجغرافي عدة، إضافة إلى إشرافها على جزء كبير من ساحل الخليج العربي الأمر الذي جعلها تقدم دوراً مهماً في الاتصالات البشرية التجارية بين شعوب تلك الحضارات منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، وقد بينت المسوحات الأثرية التي أجريت حتى الآن أن هناك أكثر من 300 موقع أثري في المنطقة تمثل فترات مختلفة يتراوح تاريخها من العصور الحجرية حتى العصور الإسلامية، وهناك عدد من المعالم التاريخية التي تعود إلى فترات إسلامية متأخرة وتبرز التطور الحضاري، وتعد مثالاً لتطور العمارة التقليدية للمنطقة. وبالقرب من موقع الدوسرية هناك موقع «دفي» الذي يعود للقرن الثالث قبل الميلاد، والثاني في «مردومة» ويعود للقرن الهجري الأول. ويمثل موقع الدفي فترة مملكة الجرهاء التي سادت في شرق الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكان الموقع مرفأً أو ميناء لإحدى المدن الجرهائية، وهي ثاج التي تعد من أبرز المدن القريبة آنذاك، بحيث تبعد 90 كم غرب مدينة الجبيل. أما موقع المردومة فيعود إلى القرن الأول الهجري فترة الدولة الأموية كبداية لتأسيس هذا الموقع ليستمر الاستيطان به حتى القرن الخامس الهجري أي قبل نهاية الدولة العباسية. واعتمد سكان هذه المستوطنة بدرجة أساسية على العمل في البحر بمختلف الأنشطة، إذ تم الكشف عن أدوات صغيرة لصيد الأسماك، وأدوات صنع الشباك، ومفالق المحار (الأصداف) وكمية كبيرة من المسامير التي تستخدم في صناعة وصيانة السفن، وكميات كبيرة من عظام الأسماك والحبار وغيره، كما أن حرفتي التجارة والصناعة من الحرف التي مارسها سكان هذه البلدة لوجود بعض المعادن الخام التي تم العثور عليها بالموقع. يذكر أن «هيئة السياحة» دعمت الهيئة الملكية للجبيل وينبع لإجراء أعمال المسح والتنقيبات الأثرية وتوثيق كل من موقعي الدفي ومردومة بالجبيل، وقد بدأ فريق كبير من هيئة السياحة مكوناً من 40 مختصاً وخبيراً بالعمل في الموقعين، إضافة إلى نحو 120 عاملاً.