تفتخر مدينة حلب بأنها ضمت إحدى أقدم قنصليات فرنسا في العالم في أسواقها القديمة، وذلك في القرن السابع عشر في عهد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر. منذ ذلك التاريخ، تنوّعت اهتمامات الفرنسيين ومصالحهم في سورية التاريخية والجغرافية. وكان البعد الديني وحماية الكاثوليك عاملاً أساسياً في البداية نظراً الى طبيعة النظام السياسي الفرنسي قبل الثورة، وسعت فرنسا لتضيف له البعد التجاري المرتبط بالمصالح الجيواستراتيجية في فترة ما بعد الثورة. واستمرت العلاقات بين إعجاب ثقافي وفكري شديد لدى النخب السورية بمبادئ الثورة الفرنسية وبين تأثير الوطنيات الأوروبية في نشوء الأحزاب السياسية الحديثة في سورية وفي طرائق عملها. ولعبت فرنسا دوراً مهماً في إعادة تشكيل المشرق العربي بالتحالف مع البريطانيين من خلال اتفاقيات سايكس بيكو سنة 1916 وما تلاها من احتلال عسكري لسورية تحت مسمى الانتداب الشرعي من قبل عصبة الأمم عام 1920. وأجهضت فرنسا بهذا أول تجربة شبه ديموقراطية عرفتها سورية. وحفلت مرحلة الانتداب بكرّ وفرّ سياسيين لم تخل من خلالهما الساحة السورية من بزوغ تيارات سياسية وثقافية متعددة في ظل بيئة متوترة ولكنها أقل قمعاً وتنكيلاً مما عاناه السوريون إبان الحقبة العثمانية، خصوصاً مع نهايات الرجل المريض. ونالت سورية استقلالها بتأثير ثورات تكويناتها الدينية والطبقية إضافة إلى عامل توافق القوى الدولية على بدء مرحلة جديدة تلت نصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وتبلور مشروع إنشاء كيان دولة إسرائيل على حساب حقوق وأراضي الشعب الفلسطيني. بدأت النخب الإدارية والعسكرية التي تكونت إبان مرحلة الانتداب ببناء الدولة السورية الحديثة وحافظت العلاقات على نوع من الاستقرار النسبي مع تمسك ببعد ثقافي ينم عن إعجاب فكري ورفض سياسي، كما أن سورية شهدت بزوغ أحزاب تأثر منظروها بالحركات القومية الأوروبية التي عاصروها إبان دراستهم في باريس مثل ميشيل عفلق (حزب البعث العربي). وتأزمت العلاقات إلى حد القطيعة مع العدوان الثلاثي الذي آذن بمرحلة جديدة من التوتر امتدت حتى وصول حافظ الأسد إلى الحكم بتبني الانفتاح على المجتمع الدولي. وجرى تبادل الزيارات، حيث زار حافظ الأسد باريس في 1976 وحصل على موافقة فرنسية لتدخله العسكري في لبنان، وقد شكل الملف اللبناني في ما بعد نقطة الخلاف المستمر، لما لفرنسا من رغبة في أن يكون لبنان آخر قواعدها الرمزية، ما أدى إلى مواجهات بالمال وبالأرواح بين الدولتين السورية والفرنسية. وقد عرفت سياسات المد والجزر ارتباطاً وثيقاً بالشأن اللبناني وبشكل نادر بالملف الفلسطيني. وجاءت مشاركة جاك شيراك بجنازة الأسد الأب مؤشراً واضحاً إلى البعد الذي أرادت الإدارة الفرنسية أن تعطيه لمجمل علاقاتها بالورثة الملكيين والجمهوريين في تلك الحقبة، كالملك عبدالله الثاني في الأردن والملك محمد السادس في المغرب. لكن الرئيس السوري كان قد حظي بتمييز مهم، فقد استقبل في قصر الإليزيه قبل أن يصل إلى سدة الحكم، واعتبر الفرنسيون آنذاك هذا اللقاء رسالة واضحة تعبر عن دعمهم توليه سدة الحكم بعد والده وإشارة إلى تحالف ممكن ومتوخى في المستقبل يعتمد على تعاون وإعادة تموضع، خصوصاً بعد شعورهم بأن الشأن اللبناني أضحى أكثر حساسية للاعب الأميركي في المنطقة. في هذا الإطار، أجمعت الآراء في مراكز صنع القرار الفرنسية على ضرورة إعادة سورية إلى مجال النفوذ الجيوسياسي، ليس فقط في مسعى لحل عقد الملف اللبناني، بل أيضاً لتكون سورية اقتصادياً وثقافياً وسياسياً حليفاً جديداً يؤمن جانبه ليؤمن شره. ولم يع صنّاع القرار في باريس بأن أنظار دمشق كانت دائماً متوجهة إلى صاحب القرار في واشنطن ولو أنها تعطي إشارات مشوشة لهذه الدولة الأوربية أو تلك. واستثمرت فرنسا في تعاون جدي مع حكومة دمشق من خلال مدّها بخبرات في مجالات متشعبة، حيث قدمت مشروع إصلاح إداري وآخر للقضاء وثالثاً للتعليم، قبعت كلها في أدراج البيروقراطية المتبسمة سخرية من جدية ظنون خائبة. وعادت العلاقات إلى توترها بعد القرار 1559 سنة 2004 وانفجرت مع مقتل الرئيس رفيق الحريري في بيروت سنة 2005. عادت سورية بقوة إلى باريس سنة 2008 بفضل رغبة نيكولا ساركوزي في تحقيق الانقطاع مع مجمل سياسات سلفه، وكذلك من خلال حسابات جدد الفرنسيون بناءها اعتماداً على رغبة قديمة ومتجددة في إيجاد موطئ تأثير في عاصمة الأمويين كما أسلفنا. واستقبلت باريس مراراً الرئيس السوري وعقيلته، وحفلت وسائل الإعلام الفرنسية بالإشارات الإيجابية إلى الانفتاح الثقافي والاقتصادي للزوجين، واستثمرت باريس في علاقاتها اقتصادياً وثقافياً، وساهمت دولة قطر صديقة الرئيسين في تعزيز التشاور وتجاوز العقبات المالية إن وجدت. خلال فترة شهر العسل السوري - الفرنسي والتي امتدت منذ 2008 وحتى نهاية العام 2010، شهدت دمشق توافد عشرات الوفود وافتتاح مكتب ذي ثقل للوكالة الفرنسية للتنمية، ورفع أعداد المنح للدراسة والتأهيل، إضافة إلى توقيع عقود عدة في مجالات السياحة والنقل والطاقة والإسمنت والنفط. وفي هذا المجال، فإن معظم العقود التي وقعت مع الطرف السوري كان لرجال أعمال متحالفين مع القيادة السياسية، أو متمتعين بغطائها ودعمها. وساهم تعيين سفير فرنسي طموح التفت حوله نخب دمشق المتنفذة واستقطبته رموزٌ اقتصادية وثقافية وإعلامية من لون واحد، إلى أن تكون صورة الحالة السورية وردية على الدوام في فرنسا، مع تقارير إيجابية لوصف الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها فريق وزارة العطري المقالة، والتي لم يستطع حتى الآن جهابذة الاقتصاد بكل مدارسه على تلمس هوية لها أو طعم أو رائحة. وفي المقابل، اختارت سورية سفيرة فوق العادة ليست من الجسم الدبلوماسي، وهو ما جرت عليه العادة في العواصم الدولية الأساسية، لكنها موظفة أمم متحدة سابقة وابنة رئيس أركان سابق وسفير لمدة طويلة في عاصمة فولتير. وبالتالي، اجتمعت الظروف والنيات لتكوين تواصل فاعل ومثمر. وحفلت زيارات الرئيس السوري بلقاءات «فكرية» مع رموز ثقافية وعلمية فرنسية طالما عرفت بمواقفها الإيجابية والداعمة لقضايا العرب الأساسية والمشروعة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والتعنت الليكودي الرافض للاستمرار بعملية السلام على أسس عادلة. وانبهر البعض من هؤلاء المثقفين بطلاقة الحديث مع رئيس شاب وطموح اعتقدوا جازمين بأنه سيحمل سورية نحو عصر جديد وسيسجل التاريخ اسمه وكأنه الشخص الذي أتى بالديموقراطية إلى سورية أو نقل سورية إلى جمعية الدول الديموقراطية بشكل متدرج وهادئ. وراهن الإليزيه على دور سوري ميّسر لحلحلة الملفات اللبنانية وكذا في التأثير على إيران من خلال الابتعاد عنها والاقتراب أكثر فأكثر من أوروبا الواعدة اقتصادياً، أو لعب دور الوسيط الموثوق مع القيادة الإيرانية وحضها على التعامل بجدية أكبر مع مخاوف الغرب وإسرائيل النووية من دون الالتفات إلى موضوع حقوق الإنسان الإيراني التي لا تعني الساسة الغربيين ويقتصر تسليط الضوء عليها على المجتمع المدني الأوروبي. وقد أسمعت إيران موفدي سورية الذين جسوا النبض بأنها وإن قررت الحوار مع الغرب فهي ليست بحاجة لوساطتهم، وكانت تلك رسالة مزدوجة أريد من خلالها إفهام الغرب بالتحاور المباشر وإفهام السوريين بأن لا يعتقدوا بأهمية إقليمية يستطيعون من خلالها إضافة ورقة جوكر إلى أوراقهم القديمة التي بدأ الاستعمال المتكرر لها يصيبها بشيء من الاهتراء. وبالتالي، الرهان على دور سوري في حل الملف الإيراني جمّد، والتفت الفرنسيون إلى لبنان وإدارة ملفاته من خلال «الصديق» السوري، وتبين لهم بجلاء تام أن رهانهم هذا ليس بالرابح، على أقل تقدير، وتكررت الوعود التي لم تلق أي تحقق على أرض الواقع. وفي النهاية، تبين لباريس أيضاً أن الملف الاقتصادي مع سورية ليس بالحجم الذي يمكن أن يؤثر على تعزيز العلاقات السياسية، وظل الحديث عن عقود استثمارية وبنى تحتية مهمة في إطار الوعود والمشاريع. في نهاية العام المنصرم، اندلعت ثورات العرب وبدأ ربيع الحرية يهلّ على عواصم عدة، فأين وجدت فرنسا نفسها؟ كان موقف باريس من ثورة تونس، ومن بعدها بدرجة أقل من ثورة مصر، يبدو متهاوناً وغير متوافق مع مبادئها النظرية المستندة إلى أنها «دولة حقوق الإنسان». وحفلت تصريحات مسؤوليها بالتخبط الذي وصل حد عرض تقديم مساعدة أمنية في الحالة التونسية أدت بوزيرة الخارجية للاستقالة. وفهم ساسة باريس بأنهم على موعد مع موجة عارمة تكتسح المنطقة العربية لن تأخذ باعتبارها حسابات ضيقة مرتبطة بخوف مزعوم من هجرات غير مرغوب فيها أو بإرهاب تصدت له نظرياً أنظمة مستبدة. وجاءت الاحتجاجات السلمية في سورية لتدفع بأصدقاء دمشق الجدد إلى تقديم النصح وعروض المساعدة على انجاز إصلاحات حقيقية تستجيب للملفات الشائكة المرتبطة بموضوعة الفساد والحريات والإدارة. وكذا فعل «الحليف» التركي بثقل اكبر و»الشقيق» القطري آملين جميعاً بأن تكون لهم حظوة في دعم عملية التغيير التي طال انتظارها. وفي الشأن السوري، فبعد سنوات من العلاقات الصعبة، تعتقد فرنسا بأنها قدمت تنازلات مهمة مراعاة للرئيس الشاب ورغبة في استقطابه نحو دائرة الانفتاح السياسي والاقتصادي، وبأنها ووجهت بسلبية لم تتوقعها. وهناك قناعة فرنسية راسخة بأن ما قدمته للرئيس الأسد من عودة «ظافرة» إلى المجتمع الدولي وإصباغ «الاحترام الدولي» لشخصه ومشاريعه ومشاركته في منصة الشرف لدى استعراض قوات الجيش الفرنسي في 14 تموز 2008، وهو الحدث الذي أسال كثيراً من حبر المعارضة والصحافة ووضع القيادة الفرنسية في موقف محرج، كلها مواقف لم تقابل بعرفان ولا بتقدير من الجانب السوري، بل على العكس. وبالتالي، فالقناعة لديها الآن بأنها لن تخسر شيئاً حين تتصدر التوجه الدولي في إدانة الأحداث الجارية في سورية ولو ووجهت باتهامات من نوع أنها تستعيد ماضيها الاستعماري كما ذكر بيان رسمي من وزارة الخارجية السورية وأعاد تكراره وزير الخارجية السوري في مؤتمر صحافي أو نظمت التظاهرات «العفوية» لطلبة المدارس أمام بعثاتها الدبلوماسية تنديداً بسياساتها «غير العادلة» تجاه نظام «الممانعة» و «الإصلاح». ويعتقد الفرنسيون بأن موقفهم المتشدد الحالي هو عملية شراء للذات بعد ما اعتبروه تخاذلاً هدفوا من خلاله إلى استيعاب أو استقطاب القيادة السورية. يبدو أن العلاقات متجهة نحو نقطة اللاعودة وإلى توتر شديد وصل إلى تبادل الطرفين العبارات القاسية والبعيدة عن أية رغبة في إعادة التواصل. ففي حين يرى الفرنسيون أن القيادة السورية لم تعد شرعية، يذكّرهم السوريون باحتلالهم جزيرة في أرخبيل جزر القمر. وهذا الوضع الديبلوماسي المتفجر ليس بمعزل عن توتر علاقات سورية مع جميع أصدقائها وأشقائها وحلفائها السابقين. وقد بدا في تصريح شديد اللهجة للوزير جوبيه أن الدبلوماسية الفرنسية تجاوزت أيضاً الخطاب المعهود حين قال إن «عملية الإصلاح ميتة في سورية، ونعتقد أن بشار الأسد فقد شرعيته لحكم البلاد». ليس من الوارد، لا سورياً ولا أوروبياً، الحديث عن تدخل على الطريقة الليبية لاختلاف الظروف والمعطيات، لوجود إجماع سوري وطني على رفض أي تدخل عسكري مباشر. وما اللجوء الفرنسي الشديد اللهجة إلى مجلس الأمن إلا محاولة للحصول على قرار يندد بما يجري على الساحة السورية من دون أية إشارة إلى تدخل. وهناك سعي ديبلوماسي فرنسي واضح لتعزيز عقوبات الاتحاد الأوروبي بإضافة أسماء أشخاص وشركات جديدة تعتبرها الدوائر الأوروبية مسؤولة عن عمليات قمعٍ وقتلٍ داخل سورية. ولقد نجحت الديبلوماسية الفرنسية (وهذا ما يؤجج غليان الغضب الرسمي السوري) في إحداث تعديلٍ، ولو طفيف، في الموقف الروسي، والذي برز خلال زيارة فلاديمير بوتين إلى باريس في 22 حزيران (يونيو) الماضي حين أشار إلى ممانعة روسيا للتدخل المباشر، مع عدم اختلافه مع نظرائه الفرنسيين حول حصول عمليات غير إنسانية في الداخل السوري وضرورة وقف قتل المدنيين. وفي إطار الحراك المدني الفرنسي المؤازر للاحتجاجات السورية، أجهضت قوى المعارضة السورية المقيمة في فرنسا محاولة استقطاب الملف السوري من قبل صديق إسرائيل والرئيس ساركوزي المؤثر والشديد الإعلامية الفيلسوف برنار هنري ليفي. وكان سبق لليفي أن لعب دوراً في الملف الليبي بشكل مؤثر وفعّال. واعتبر المعارضون السوريون والمثقفون المستقلون أن تدخله في حمل لواء الحرية السوري ودعوته مثقفين فرنسيين إلى الاهتمام بما يجري في هذا البلد هو كلام حق يراد به باطل، من خلال معرفتهم العميقة بالمواقف السياسية والإيديولوجية لهذا الشخص والذي تعتبر مساندته لقضية السوريين في الحرية والكرامة إساءة لا تقدّر مداها قوى معارضة وطنية متحمسة لكنها عاجزة عن تكوين رؤية سياسية. تستمر فرنسا في قيادة وتحفيز الحراك الأوروبي الضاغط على دمشق في سبيل تحقيق إصلاحات جدية والسماح للمنظمات الإنسانية بالتحقق من انتهاكات الأمن أو من تسميهم وسائل الإعلام السورية المخربين. وكذلك، فتح المجال لكي يمارس الإعلام دوره في تغطية الأحداث بعيداً عن التشكيك والتكذيب والتلفيق. ويقوم النشاط الديبلوماسي الفرنسي على محاولة إقناع الدول المترددة مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا باتخاذ موقف مما يحصل وتحميلها مسؤولية أخلاقية وإنسانية إن هي عارضت أية إدانة تصدر عن مجلس الأمن للانتهاكات في سورية. وبخصوص التنسيق مع الأتراك، فالصعوبة تكمن في البرودة التي تكتنف علاقات النخب الحاكمة في البلدين، فرنسا وتركيا، والعائدة إلى الموقف الفرنسي المتعنت من مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وبالتالي، فإن الأتراك أقدر على التعامل والتنسيق مع واشنطن، ويتجاوزون عمداً باريس، في هذه المرحلة على الأقل. وأخرجت سورية القارة الأوروبية من خريطتها، وستطوي ملف الشراكة مع أوروبا المجمد منذ فترة، كما ستجمد عضويتها في الاتحاد من أجل المتوسط والذي كان يمثل بوابة عودتها إلى المجتمع الدولي بفضل جهد شخصي للرئيس نيكولا ساركوزي. ستستمر إذاً قافلة «الإصلاح» تسير كما صرح وزير الخارجية وليد المعلم، و«الكلاب» الأجنبية تنبح، وليس من الواضح بعد ما إذا كان العواء سيتحول لاحقاً إلى مرحلة العض. * كاتب سوري. مدير البحوث في «مبادرة الإصلاح العربي».