فوجئت فرنسا ورئيسها نيكولا ساركوزي بالثورة التونسية كما فوجئ العالم بأسره. ولم تكن المفاجأة فقط استراتيجية بالنسبة إلى دولة لها مصالح كثيرة في تونس، إنما فوجئت فرنسا بحكم القرب والعلاقات المستمرة والعميقة بين السياسيين من البلدين والأشخاص في البلدين. فمنذ وصول بن علي إلى الرئاسة في تونس كان كل الرؤساء الفرنسيين من أسلاف الرئيس نيكولا ساركوزي والرئيس السابق جاك شيراك وغيرهما من مسؤولين من اليمين والاشتراكية الفرنسية يدافعون بقوة عن أداء الرئيس زين العابدين بن علي الاقتصادي ونظامه الذي كان في نظرهم رادعاً لأي تطرف إسلامي. وفرنسا عجزت في بداية الثورة عن اكتشاف أن الأمور تجرى في طريق الثورة الحقيقية. ووزيرة خارجية فرنسا آنذاك (ولمدة قصيرة جداً) ميشيل إليو ماري كانت أمضت في بداية الثورة التونسية إجازة هناك واستخدمت طائرة خاصة لرجل أعمال من أقارب آل طرابلسي له علاقة بعائلة ليلى زوجة الرئيس التونسي المخلوع. وقد شنّت المعارضة الفرنسية الاشتراكية حملة على الوزيرة والرئيس. وأجرى ساركوزي تعديلاً حكومياً. سلم وزارة الخارجية إلى رئيس الحكومة السابق آلان جوبيه وهو شخصية لامعة في إدراك التغييرات الجارية ومواكبتها. وجوبيه شرح بنفسه يوم نظم ندوة في معهد العالم العربي في نيسان (أبريل) من هذه السنة ماذا جرى من تغيير في الديبلوماسية الفرنسية وقال: «لقد فكرنا لمدة طويلة أن الأنظمة السلطوية هي الرادع الوحيد للتطرف في العالم العربي، واستخدمنا طويلاً حجة التهديد الإسلامي لتبرير مجاملتنا لحكومات تهزأ بالحريات وتعطل التطورات في البلاد. وفجأة وفي مدينة سيدي بوزيد، وخارج أي تيار سياسي أو ديني، شاب أحرق نفسه، هكذا بدأت شعلة الحرية تنتقل في كل المنطقة، فقام شباب مصر ثم ثارت ليبيا، فالشعوب العربية ثارت على اضطهادها». لخص جوبي مفاجأة فرنسا وبداية اندلاع الثورة في عدد من الدول العربية، فالكثيرون في فرنسا اعتبروا عدم إدراك ما كان يجري في المجتمع التونسي نكسة سياسية مباشرة لأن تونس من أقرب الدول إلى فرنسا. وبالنسبة إلى الديبلوماسية الفرنسية كان الفشل الذريع في أنها لم ترَ ذلك الآتي ومثّل ذلك نوعاً من صفعة للسياسة الخارجية. هذا الفشل تحكم برد فعل الرئيس نيكولا ساركوزي في قراره أن يمحو فشل الديبلوماسية الفرنسية التي كان المفروض أن تعرف ما يجري، كون تونس قريبة جداً لها، وكون أكثر من 600 ألف تونسي مقيمين في فرنسا. هذا العمل السيكولوجي لدى ساركوزي وجوبيه والديبلوماسيين الفرنسيين بالتعويض عن الفشل الكبير لا يزال يتفاعل، وقد خلق ذلك نوعاً من التحدي للسياسة الفرنسية. وتدخلت فرنسا في ليبيا لحماية الشعب من مجزرة في بنغازي، وأيضاً لحماية الثورة التونسية التي حصلت في بلد صغير محاط من الجزائر وليبيا. فلا نظام القذافي في ليبيا ولا النظام الجزائري كانا مؤيدين للثورة التونسية لأن النموذج الديموقراطي الجديد في تونس مثّل سلبيات لكل من القذافي والنظام الجزائري. كان هناك تسريب سلاح من الجزائر، والقذافي قال علناً إنه مستعد لمساعدة بن علي واستضافته، وكان القذافي دان ما قام به الشعب التونسي وكيف يقلب رئيساً مثل بن علي، فلا شك في أن الحفاظ على النموذج الديموقراطي في تونس لعب دوراً في التدخل الفرنسي في ليبيا وإن لم يكن العامل الأساسي والوحيد. التدخل في ليبيا كانت فيه فرنسا سباقة، في حين انها لم تكن سباقة في ما حصل في مصر حيث علاقات ساركوزي وأسلافه مع الرئيس المصري كانت أكثر من وثيقة، فالرئيس فرنسوا ميتران أمضى الأيام الأخيرة من حياته في أسوان في ضيافة مبارك، ثم استمرت العلاقات بين رؤساء البلدين إلى شيراك وساركوزي إلى أوثق وأقرب. الرئيس الأميركي باراك أوباما هو الذي فتح الطريق إلى دعم ثوار مصر عندما قال إنه لا يمكن أن يبقى حسني مبارك ممسكاً بزمام الأمور في مصر، والشعب المصري قرأ في رسالة أوباما دفعاً للثورة، فلم يكن دور طليعي لفرنسا في ثورة مصر، مع العلم أن ساركوزي أسرع، بعد مطالبة أوباما مبارك بالتنحي، إلى المطالبة نفسها، علماً أن وزير الخارجية جوبيه كان من أوائل الذين زاروا القاهرة ونزلوا إلى ميدان التحرير لمحاورة الثوار. وقد أخطأت فرنسا في تحليلها في البداية حول مصر عندما اعتقدت أن الجيش المصري قوي جداً وكان محتملاً أن يتسلم الحكم. ثم تبين لها عندما تسلم عمر سليمان أن هناك خطاً لم يقطع بين الجيش وحسني مبارك. بالعكس من هذا التحليل فإن الضغط الشعبي وتطور الأحداث أجبرا الجيش على التخلي عن مبارك. المبادرة الأساسية لفرنسا في الثورات العربية كانت في ليبيا، تشجعت للتدخل في ليبيا بعد ثورة تونس، ثم تحركت مع بريطانيا لإقناع الولاياتالمتحدة التي لم تكن محبذة التدخل العسكري في سماء ليبيا في البداية ولم تكن واثقة من تمكن الثورة من التخلص من القذافي. ساركوزي وجوبيه تحركا بقوة لإقناع الإدارة الأميركية بضرورة تجنب مجزرة يقوم بها القذافي. وكان موقف مجلس التعاون الخليجي وموقف الجامعة العربية المؤيد هذا التدخل، إضافة إلى المعارضة الليبية التي شكلت المجلس الانتقالي، عوامل أدت إلى اندفاع فرنسا إلى هذا التدخل. وتشجعت أيضاً لأن ليبيا مثل تونس ليس لها بعد استراتيجي، فبالإمكان معالجة البلدين كبلدين مستقلين على عكس سورية التي ينبغي وضعها في إطار إقليمي مع تداعيات مختلفة، فالبعد الاستراتيجي لليبيا ليس عاملاً للتدخل الفرنسي. أما البعد الاقتصادي والنفطي فهذا أيضاً ليس العامل الأساسي لأنه كان لفرنسا علاقات نفطية واقتصادية واسعة مع نظام القذافي. لكن، إذا أردنا تقويم أهمية ليبيا فإن نفطها طبعاً هو عامل أساس على أهميتها على الصعيد الاقتصادي. لكن البعض يرى أن التدخل الفرنسي في ليبيا هو بمثابة التدخل الفرنسي في عراق صدام حسين في عهد جيسكار دستان ثم في عهد رئاسة حكومة جاك شيراك قبل أن يتولى الرئاسة، إذ إن باريس استطاعت أن تأخذ العراق من النفوذ الاقتصادي والتجاري البريطاني إليها. كانت المرة الأولى لفرنسا التي لم تكن تستعمر العراق سابقاً، التي تنعم بالهيمنة الاقتصادية على هذا البلد النفطي الغني. والتدخل الفرنسي العسكري في ليبيا يجعل فرنسا فيم وقع جيد في القطاع الاقتصادي بسبب دورها السباق في الاعتراف بالمجلس الانتقالي الليبي في قرار مجلس الأمن التدخل في ليبيا وجمع 60 دولة في القصر الرئاسي الفرنسي لدعم المجلس الانتقالي والإفراج عن الأموال الليبية. هنا أيضاً فرنسا ليست مستعمرة سابقة لليبيا، ومع ذلك استطاعت أن تقلب ميزان القوى وأن تحظى بنفوذ بالنسبة لمستقبل ليبيا. والتخلي عن القذافي ومساعدة الثورة الليبية مكنا فرنسا من أن تكون لها سياسة شاملة في المغرب الكبير من طرابلس إلى المغرب، وإن بقيت الجزائر خارج هذه الحلقة لأسباب تاريخية. مع العوامل السيكولوجية والشعور بضرورة تصحيح الفشل في قراءة الأمور، هناك إطار جديد للتعامل مع المغرب الكبير مع نفوذ فرنسي يعود إليه في شكل مختلف عن الماضي وفي الجزائر أيضاً. ولكن ينبغي عدم التخطيط المسبق لهذا النفوذ الفرنسي في المغرب الكبير. قد تعود فرنسا إلى دور المحاور الأساسي. ليس من خطط جاهزة، ولكن استغلال الأمور بالطريقة المناسبة بدعم الديموقراطية التي سار بها ملك المغرب أو بدعم الثورة أو بالتدخل المباشر لحماية الشعب في ليبيا، هناك خط متواصل ومفتوح بين القاهرة والرباط. أما بالنسبة إلى سورية فساركوزي بدأ يرى أن الرئيس الأسد لا يسمع من أحد منذ أن حاول المبادرة بعد لقائه العاهل السعودي الملك عبدالله في نيويورك الذي قال له إن مسعى السعودية مع سورية توقف حول لبنان. حاول ساركوزي جمع رؤساء حكومات تركيا وقطر ولبنان (سعد الحريري آنذاك) داعياً سورية التي لم ترد على الدعوة بالرفض ولا بالقبول. ثم استاء ساركوزي من الأسد عندما أبلغه أن سعد الحريري لن يكون رئيساً للحكومة وبعد تطيير اتفاق الدوحة الذي أغضب فرنسا والصديقة قطر إلى أن تم تشكيل حكومة وصفها ساركوزي للبطريرك الراعي بأنها منبثقة عن حزب الله وأن نجيب ميقاتي هو رئيس لحكومة حزب الله. ثم بدأت التظاهرات في سورية وقمع النظام. انطلقت السياسة الجديدةلفرنسا بالنسبة إلى سورية من فشل محاولة ساركوزي إعادة الرئيس الأسد إلى أسرة الأمم وإخراجه من العزلة التي وضعه فيها شيراك بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. إلا أن فشل هذه السياسة دفع ساركوزي إلى العمل مع جوبيه لإخراج الأسد مجدداً من الأسرة الدولية وعزله بعقوبات أوروبية صارمة إزاء القتل الذي يقوم به تجاه شعبه، وطالبه مع الرؤساء الأوروبيين وأوباما بأن يتنحى. فرنسا أرادت أن تصحح الخطأ الجسيم إزاء النظام السوري، وكما قال ساركوزي في خطابه أمام السفراء الفرنسيين «إن الرئيس الأسد عمل ما لا يغفر له، وفرنسا مع شركائها ستفعل بكل الإمكانات القانونية والشرعية كي تنتصر تطلعات الشعب السوري إلى الحرية والديموقراطية». قال ساركوزي قناعته للبطريرك اللبناني بأن نظام الأسد انتهى، إلا أن هناك عدم يقين في الوقت الذي يستغرق ذلك، وأن المعارضة السورية منقسمة وغير منظمة. لكن موقع سورية الإقليمي أكثر تعقيداً إقليمياً من ليبيا، فهناك بالنسبة إلى سورية دول مجاورة مثل تركيا فقدت التأثير بعدما كان لا حدود لتأثيرها وفق ما كان يتحدث عنه وزير الخارجية التركي. إضافة إلى أن موقف روسيا ما زال ضد أي قرار في مجلس الأمن يشدد العقوبات. ثم إن المعارضة السورية لم تطلب أي تدخل خارجي بل ترفضه. والموقف العربي مختلف عن الموقف إزاء ليبيا ولم يطلب بوضوح رحيل الأسد مثل أميركا والأوروبيين. ولا شك في أن ساركوزي وجوبيه يتحركان بقوة في الملف السوري على رغم مخاوف فرنسية طبيعية من تعرض الجنود الفرنسيين في يونيفيل لأي سوء في جنوب لبنان. لذا، يردد الرئيس الفرنسي باستمرار لكل زائر لبناني تشديده على واجب لبنان وحكومته حماية يونيفيل كما يقضي القرار 1701 الذي ينص على انتشار الجيش اللبناني بعدد أكبر مما هو حاصل، وألا يسمح لوكلاء سورية على الأرض اللبنانية أن يعرضوا يونيفيل لأي سوء. وساركوزي الذي حوّل الديبلوماسية الفرنسية إلى الوقوف إلى جانب الشعوب العربية المطالبة بالحرية والديموقراطية، يردد لمحاوريه الغربيين وغيرهم أن الوضع الفلسطيني الحالي غير مقبول، خصوصاً أن الشعوب العربية تتحرر في غضون أسابيع والشعب الفلسطيني يبقى منذ 60 عاماً تحت الحصار مع مسار سلمي فلسطيني معطل بسبب ديبلوماسية الرئيس أوباما التي لم تعد تحريكه. وساركوزي يربط وقوف فرنسا إلى جانب الشعوب العربية ضد القمع بضرورة حل المشكلة الفلسطينية على الأسس المعروفة. وفرنسا لم تنتقد رغبة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في التوجه إلى الأممالمتحدة للمطالبة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. والإدارة الأميركية تمارس ضغوطاً كبرى على فرنسا والأوروبيين للتصدي للمشروع الفلسطيني للذهاب إلى الأممالمتحدة. إلا أن فرنسا تلوم طريقة الرئيس أوباما بعدم تحريك المفاوضات بجهود جماعية وليس فقط من طريق مفاوضات تقتصر على الوسيط الأميركي. وقال الرئيس الفرنسي «إن فرنسا ستتحمل مسؤوليتها في هذه القضية». فالرئيس ساركوزي يحاول توحيد الصف الأوروبي قبل التصويت لأن التقليد الأوروبي يقضي بأن يكون التصويت في الجمعية العمومية موحداً. وباريس تجري الآن مشاورات مكثفة لتعديل النص الذي سيصوت عليه وتحسينه كي يحظى باتفاق أوروبي. فباريس تعتقد أن بإمكانها التوصل إلى موافقة أوروبية باستثناء تشيخيا وهولندا، وعندئذ يكون في إمكان فرنسا مع الدول الأوروبية التي تتفق على نص يجرى الآن التفاوض عليه مع الطرف الفلسطيني والعربي، أن تدفع دولاً أخرى من أميركا اللاتينية وغيرها إلى ذلك. هذه الجهود لساركوزي وجوبيه تدخل في إطار الديبلوماسية الفرنسية الجديدة التي تطمح إلى عودة تأثيرها الكبير عبر الديموقراطيات الجديدة في دول المغرب ولاحقاً مع سقوط نظام القذافي، والتعبئة الفرنسية من خلال ترؤسها مجموعة الثماني لتنفيذ التزامات قمة دوفيل والاستمرار بها في نيويورك للنظر في مساعدة مصر وتونس وليبيا. وعلى رغم الاندفاعة الفرنسية لمساعدة الثورات العربية هناك مخاوف فرنسية حول احتمال هيمنة إسلام متطرف أكثر تنظيماً من الثوار الديموقراطيين، ولكن المخاوف من هذا الاحتمال هي حافز أكبر لمساعدة القوى الديموقراطية التي سعت إلى قلب الأنظمة التي كانت حليفة لفرنسا لمدة طويلة. والرئيس الفرنسي لخص بوضوح سياسته إزاء الربيع العربي في ذكرى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في الولاياتالمتحدة بقوله «إن الربيع العربي يشكل أمثل رد على منفذي اعتداءات 11 أيلول، إذ إن هدف منفذي هذه الجرائم كان تسديد ضربة قاتلة للقيم الديموقراطية، فأفضل رد على هؤلاء المجرمين هو تحرر الشعوب العربية وتأكيد التزامها بقيمنا الديموقراطية من تونس إلى مصر وليبيا وسورية واليمن».