ألقت الاحتجاجات الشعبية والأزمة السياسية التي تشهدها سورية بظلالها على الاقتصاد السوري الذي لم يسلم بدوره من تبعات أزمة المال العالمية. المعطيات المتوافرة حتى الساعة، تشير إلى تراجع وركود أصابا قطاعات كثيرة، في مقدمها السياحة التي تراجعت بنسب تراوحت ما بين 12 و32 في المئة، بين آذار (مارس) وأيار (مايو) الماضيين. وبين الفينة والأخرى تحصل اختناقات في تسويق المنتجات الزراعية والبضائع بين المحافظات السورية، وبين سورية والعالم. ويصيب الركود القطاع العقاري وقطاعات خدمية كثيرة، في ضوء حذر رجال الأعمال والمستثمرين وترقبهم مع استمرار الأزمة. ويأتي التراجع والركود في وقت أقر فيه الرئيس بشار الأسد وحكومته، زيادة لرواتب موظفي الدولة وأجورهم بنسب تتراوح ما بين 20 و30 في المئة، وخفضاً لسعر الديزل المدعوم أصلاً بنسبة 25 في المئة، ليصبح سعر الليتر الواحد 15 ليرة سورية، أي ما يزيد بقليل على 30 سنتاً، إضافة إلى خفض الضرائب على السلع الغذائية. وإذا كانت زيادة الأجور وخفض الضرائب وسعر الديزل، ستساعد على زيادة القدرة الشرائية وتحسين مستوى المعيشة وخفض تكاليف الإنتاج، فإنها ستعني من جهة أخرى أعباء تضخمية إضافية على الموازنة العامة تقدر بنسبة لا تقل عن أربعة في المئة، إذ سيصبح مجمل العجز في حدود ثمانية في المئة. وسيزيد من هذه الأعباء احتمال تسريح آلاف العاملين من مختلف القطاعات في حال استمرار الأزمة ومعها التراجع والركود، وسيزيدها توقع تراجع معدل النمو الاقتصادي ككل إلى ثلاثة في المئة متوسطاً سنوياً، بدلاً من خمسة في المئة خلال السنوات القليلة الماضية. وهناك أيضاً، مخاوف من تدهور علاقات سورية الاقتصادية مع دول الاتحاد الأوروبي التي تستوعب ثلث الصادرات السورية وتشكل مصدراً لربع إيرادات سورية على الأقل. وعلى رغم وطأة تراجع أداء الاقتصاد السوري على السوريين، فإن هذا الاقتصاد لا يزال يملك حتى الساعة مقومات تحول دون نشوء أزمة اقتصادية حادة. ومن أبرز هذه المقومات وصول البلاد إلى درجة عالية من الاكتفاء الذاتي في إنتاج الأغذية والأدوية ومصادر الطاقة، وهو ما يفسّر استقرار أسعار غالبيتها حالياً. وهناك اكتفاء كامل وفوائض من أغذية إستراتيجية كالقمح والخضار والفواكه وزيت الزيتون وغيرها. ويُقدر احتياط النقد الأجنبي بحدود 18 بليون دولار كافية لتمويل الواردات أكثر من نصف سنة. ولا تزال الليرة السورية تتمتع باستقرار نسبي تجاه العملات العالمية الرئيسة. أما عجز الموازنة فلا يزال في حدود مقبولة. ومعروف أن سورية ليست من الدول التي اقترضت مبالغ تُذكر من الدول الأجنبية والمؤسسات الدولية، كما نجحت أخيراً في فتح فرص تعاون اقتصادي جديدة مع دول صاعدة كالبرازيل والمكسيك وتركيا وماليزيا وأندونيسيا والهند، إضافة إلى تعزيز هذا التعاون مع الصين وإيران. ولا شك في أن تطور الاقتصاد السوري خلال الأشهر المقبلة وما بعدها مرتبط بمسار الاحتجاجات الشعبية وتبعاتها الأمنية والسياسية. فاتجاه الوضع السياسي نحو الانفراج سينعكس في شكل إيجابي على النشاط الاقتصادي على رغم أن إعادة الثقة للمستثمرين ورؤوس الأموال تتطلب بعض الوقت. وعلى العكس من ذلك، سيصيب استمرار الاحتجاجات ومعها الأزمة السياسية الاقتصاد بمزيد من الضعف وسيقوض عناصر تنوعه وتوازنه وقوته الأساسية. وبما أن التفاؤل آخر ما يتعرض للموت حسب مثل ألماني، فإن الآمال معقودة على انفراج الوضع السياسي في سورية. وهو الأمر الذي سيفتح آفاقاً واعدة لاقتصادها، خصوصاً أنه أكثر ليبرالية وانفتاحاً وتعددية من نظامها السياسي، غير أن ذلك لا يعني التقليل من حقيقة أن الخطوات الليبرالية المتخذة خلال السنوات العشر الماضية، عززت انتشار الفساد وغياب العدالة في توزيع الثروة وقيمها المضافة لمصلحة فئات صغيرة مقربة من صناع القرار السياسي، علماً أن هذه الفئات تنتمي إلى مختلف المشارب والفئات الدينية والقومية التي تشكل نسيج المجتمع السوري. وفي كل الأحوال فإن أي تطوير وإصلاح للاقتصاد السوري لا يمكن له أن يغفل أهمية تعزيز التعاون الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي، وهذا عكس ما يراه بعض السياسيين السوريين. فعلى رغم أهمية تنويع مصادر الدخل على أساس تعزيز هذا التعاون مع الدول الصاعدة، فإن دول الاتحاد وفي مقدمها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، لا تزال تتمتع بأهمية حيوية بالنسبة إلى الاقتصاد المذكور. ولا يعود السبب الرئيس في ذلك إلى كون أوروبا تستوعب ثلث الصادرات السورية وحسب، بل لكونها في مقدمة الدول المنتجة للتقنيات العالية ووسائلها اللازمة لتطوير البنى التحتية ووسائل النقل ومستلزمات الصناعة وتحديثها. وتبرز في المقدمة تقنيات وسائل الاتصال والنقل والطاقة والصناعات الأساسية. وعلى أرض الواقع لا يمكن للمرء على سبيل المثال تطوير قطاعي النقل والاتصالات السوري إلى مستويات عالمية من دون تقنيات ألمانية وفرنسية وأوروبية أخرى.