ربما لا يتذكر الكثير منا أن النفوذ القوي للدولة السورية في الاقتصاد يعود إلى فترة ما قبل قيام الوحدة مع مصر عام 1958، ووصول حزب البعث إلى السلطة في عام 1963. صحيح أن ستينات القرن الماضي شهدت أكبر عملية تعزيز لهذا النفوذ من خلال تأميم عدد كبير من المؤسسات والشركات، لاسيما المؤسسات الصناعية الكبرى والبنوك، غير أن الدولة كانت تتحكم قبل ذلك بمفاتيح الاقتصاد، مثل امتلاك شركات التبغ والتنباك والهاتف والكهرباء وشركات نقل وغيرها، كما اتبعت سياسات حمائية صارمة في شكل أدى أواخر أربعينات القرن الماضي إلى الانفصال النقدي والجمركي عن لبنان الذي اختار الاقتصاد الحر. وخلال سبعينات القرن الماضي وحتى أواسط ثمانيناته، شهد القطاع العام في سورية طفرة استثمارات ونمو أدت إلى تشغيل مئات الآلاف في مختلف مؤسساته. وعلى رغم سياسات التقشف التي رافقها اتخاذ خطوات ليبرالية انتقائية منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، فإن هذا القطاع لا يزال يضم نحو 1.4 مليون موظف وعامل إضافة إلى افراد الجيش الذي يبلغ عددهم نصف مليون ما بين متطوع ومجنّد إلزامي. وإذا أخذنا في الاعتبار عدد أفراد الأسر المستفيدة من هذه الوظائف، فإن عدد الذين يرتبط خبزهم اليومي مباشرة بالدولة يزيد على 40 في المئة من سكان سورية المقدر ب 23 مليون نسمة. ويشمل حضور الدولة المباشر في الاقتصاد السوري كل القطاعات الإنتاجية والخدمية، الأساسية منها والفرعية. ويبرز هذا الحضور في مجالات التعليم والصحة والنقل والاتصالات والثقافة والتجارة، إذ تقدر نسبة العاملين فيها بحوالى 75 في المئة، في مقابل نحو 16 في المئة في الصناعة و9 في الزراعة بحسب الإحصاءات الرسمية السورية عام 2005. وتدعم الدولة أيضاً أسعار مواد غذائية أساسية يستفيد منها جميع السوريين، كالخبز والسكر والديزل والشاي والأدوية وغيرها. انطلاقاً من الدور الفاعل للدولة في الحياة الاقتصادية، لا بد من نقاش عميق يساهم في وضع خارطة طريق تؤدي إلى تراجع هذا الدور إلى حدوده الطبيعية في سورية المستقبل، ويجب لهذه الخارطة ان تحدد معالم انسحابها، أي انسحاب الدولة التدريجي من النشاط الاقتصادي المباشر لصالح قيامها بتوفير إطار استثماري وبنى تحتية جاذبة للاستثمار، تضمن تكافؤ الفرص وقوانين منافسة تسري على الجميع. ويزيد من أهمية خارطة كهذه، واقع أن الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالحرية والديموقراطية ستؤدي بلا شك إلى الانتقال بسورية نحو دولة تعددية سياسية ونظام اقتصادي أكثر منافسة وليبرالية. إن الحوار في شأن أي نظام سياسي واقتصادي آتٍ في سورية، لا بد أن يأخذ في الاعتبار أن أي تغيير سريع أو مفاجئ يطرأ على مؤسسات الدولة السورية الحالية، الاقتصادية منها وإلادارية، سيكون له تبعات اقتصادية واجتماعية تمس حياة مئات الآلاف من السوريين الذين يعتمدون في دخلهم على الوظائف الحكومية. ومن هذه التبعات على سبيل المثال لا الحصر، توقف دفع رواتب هؤلاء في شكل سيدفعهم للاحتجاج في الشارع وتهديد أي استقرار سياسي ينشده صناع القرار السياسي في سورية المستقبل. وفي حال حصل ذلك، فإن الوضع الاقتصادي سيكون أسوأ بكثير من وضع العراق بعد احتلال القوات الأميركية بغداد وانهيار مؤسسات الدولة والأمن هناك. ويعود السبب في ذلك الى أن سوريا لا تملك احتياطات نفطية يمكنها على أساسها الاقتراض أو تصدير النفط من أجل توفير لقمة العيش لجيوش العاملين في القطاع العام، في حال سارت الأمور نحو تغيرات مفاجئة في عمل مؤسساته. يستعر الجدل مع استمرار الاحتجاجات الشعبية السورية حول النظام السياسي المقبل، وهذا أمر طبيعي في ظروف كهذه، غير أن غياباً شبه كامل للحديث عن ملامح اقتصاد سورية المستقبل ومصير مؤسسات القطاع العام لاحقاً، ليس له مبرراته، على رغم هذه الظروف، لاسيما أن ذلك مرتبط بمصير لقمة العيش اليومية لملايين السوريين الذي ينتظرون تحسين مستوى معيشتهم في المرحلة الآتية. أما حجة البعض بالقول: «بس يجي الصبي منصلي على النبي»، فليست مقنعة، لأن حياة هذا الصبي ومستقبله مرتبطة بالاقتصاد بدرجة لا تقل عن ارتباطها بالسياسة. وقد سألني أخيراً خبير اقتصادي ألماني على معرفة بالشأن السوري، كيف سيكون للمؤسسات السورية دفع رواتب نحو مليون ونصف مليون في حال أصيب الاقتصاد بالشلل أو بانهيارات مفاجئة؟ الخبير أشار في سياق حديثه، الى أن ألمانياالشرقية عندما انهارت، تلقتها أيدي الأخ الغني في الغرب، أي ألمانياالغربية، وعندما انهار نظام صدام حسين في العراق عانى العراقيون الجوع والحرمان إلى أن استقرت عائدات الدولة من النفط بعض الشئ، أما بالنسبة لسورية، فليس من الواضح بعد كيف ستكون الحال اذا حصلت انهيارات مفاجئة. سؤال برسم الذين يودون تحديد مستقبل سورية السياسي والاقتصادي. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - برلين