تُذكّر بريطانيا هذه الأيام بعهد المرأة الحديدية رئيسة الوزراء السابقة المحافظة مارغريت ثاتشر التي قادت خلال ثمانينات القرن الماضي في بلادها أكبر عملية تقليص لنشاط الدولة المباشر في الحياة الاقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية. وتمثل هذا التقليص في عملية تخصيص واسعة شملت قطاعات اقتصادية حيوية يترحم البريطانيون بحسرة عليها هذه الأيام، وفي مقدمها خدمات المياه والكهرباء والنقل عبر السكك الحديد والصحة. وقبل أسابيع أعلنت الحكومة البريطانية التي يتزعمها أيضاً السياسي المحافظ ديفيد كامرون، عزمها اتخاذ إجراءات تقشف صارمة تقضي بتقليص الإنفاق العام بأكثر من 80 بليون جنيه إسترليني، أي ما يعادل خمس الإنفاق العام في مؤسسات الدولة باستثناء قطاعي الصحة والمساعدات الخارجية. وبما أنه لم يعد هناك كثير من المؤسسات العامة التي يمكن تخصيصها منذ أيام تاتشر، فإن الخفض سيطاول في الدرجة الأولى مجالات الدعم الاجتماعي للفقراء وذوي الدخل المحدود وإدارات الحكومة والخدمات العامة التي ستشهد إلغاء نحو نصف مليون وظيفة من أصل ستة ملايين. قد لا يختلف اثنان حول ان الحكومة البريطانية، مثل معظم حكومات الدول الغربية الأخرى، لا تملك خيارات أفضل من خيار التقشف في حال إرادات استعادة بعضاً من الثقة المفقودة بالاقتصاد البريطاني حيث تعاني الموازنة العامة عجزاً تجاوز 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فيما يصل مجمل الدَّين العام إلى نحو 60 في المئة من الناتج. وهو بذلك لا يقل خطورة عن العجز الذي تعانيه اليونان وإرلندا وإسبانيا والبرتغال. وخلال السنتين الماضيتين، فقدت العملة البريطانية ثلث قيمتها إزاء الدولار، أما معدل النمو فهو أقل من واحد في المئة هذه السنة، مقارنة بأكثر من ثلاثة أضعاف ذلك في ألمانيا. وعليه فإن السؤال المطروح هو: هل تكفي إجراءات التقشف التي ستغير بريطانيا إلى الأبد، بحسب العديد من الصحف البريطانية، لإعادة العافية إلى الاقتصاد المذكور الذي هجرته الصناعة لمصلحة قطاع الخدمات المالية والمضاربات؟ يشكك وبحق، معهد الدراسات المالية، وهو أكبر مؤسسة بحثية في بريطانيا، في ان تكون إجراءات حكومة كامرون كافية للتخلص من عجز الموازنة وحفز النمو الاقتصادي خلال السنوات الأربع المقبلة. تراهن حكومة كامرون، مثلما فعلت حكومة ثاتشر، على القطاع الخاص لتحقيق هذا الإنعاش من خلال إيجاد مليون وظيفة جديدة وتشجيع الطلب المحلي وزيادة الإيرادات الضريبية خلال السنوات الأربع المقبلة. وتستند في رهانها على تحسين شروط عمل القطاع ونشاطه من خلال ضخ عشرات بلايين الجنيهات لتحديث البنية التحتية ودعم صناعات الطاقة المتجددة. لكن السؤال هو: لماذا الرهان على القطاع الخاص وحده وفي شكل مبالغ فيه، خصوصاً ان هذا الرهان، في ظل رقابة حكومية ضعيفة، ساهم في إيصال بريطانيا إلى أزمتها الاقتصادية الحالية؟ وفي ظل هذه الأزمة الذي تسببت بها الليبرالية الاقتصادية المبالغ فيها، من المشكوك فيه تحقيق أهداف الحكومة البريطانية التي تتطلب نمواً اقتصادياً بنسبة ثلاثة في المئة على الأقل. ويشكك معظم الخبراء وبحق في إمكانية تحقيق هذه النسبة مع الأخذ في الحسبان ان بريطانيا لم تعد من البلدان الصناعية القادرة على المنافسة مثل ألمانيا، فيما أصابتها الأزمة المالية العالمية بضربة موجعة، فهي كانت ثاني أهم مركز لصناديق التحوط والمؤسسات المصرفية التي أنهكتها الأزمة. وفي الخلاصة وعلى ضوء المعطيات الحالية، يمكن القول ان البريطانيين ينتظرون أياماً أصعب من تلك التي ستأتي بها حزمة التقشف المقبلة. وستشهد هذه الأيام ارتفاع نسبة البطالة والفقر وتراجع مخصصات الدعم الاجتماعي ومستوى الخدمات العامة. ومن خلال نظرة عامة على واقع معظم الدول العربية، يمكن القول إنها تسير بدورها نحو أيام أصعب تطاول غالبية الشرائح الاجتماعية، على رغم تمتع هذه الدول بمعدلات نمو أعلى بكثير من نظيرها في بريطانيا وبقية الدول الأوروبية بسبب تأثرها الأقل بالأزمة المالية العالمية مقارنة بالدول الصناعية. وتعود جذور المشكلة في هذه الدول إلى ان تراجع دور الدولة في الحياة الاقتصادية من خلال تخصيص مؤسسات تابعة للقطاع العام وسحب الدعم عن سلع إستراتيجية لا يواكبه بناء لشبكة ضمانات وإعانات اجتماعية يساهم فيها القطاع الخاص بقوة كما هي الحال في الدول الغربية. فقد توسع هذا القطاع إلى حد قيادة عملية التنمية في دول عديدة، كما هي الحال في مصر والمغرب والأردن والإمارات، لكن مؤسساته لا تزال بعيدة من تحمل مسؤولياتها الاجتماعية من خلال التأمين على العاملين في مجالات الصحة والتقاعد والبطالة، إضافة إلى المساهمة في تعليم الأيدي العاملة الفتية وتدريبها. أما التفاؤل الذي ساد حول فرص تشكل طبقات وسطى تشكل قاطرة للتنمية في هذه الدول فقد تبدد هذه الأيام، لأن فئات رجال الأعمال الجدد فيها بدأت بتشكيل تحالفات ومراكز نفوذ احتكارية تتحكم في الأسواق والأسعار كما كان يفعل القطاع العام من قبل من خلال إملاء أسعاره الإدارية واحتكار النشاط في قطاعات اقتصادية كاملة. ومن الأمثلة على ذلك فرض هذه الفئات في مصر والمغرب ودول أخرى أسعاراً تفوق بكثير أسعار السوق العالمية لسلع إستراتيجية كالحديد والإسمنت والسكر والرز وغيرها. ومن شأن احتكار كهذا ليس التحكم بالمستهلك فقط، بل أيضاً سد الطريق أمام نشوء مؤسسات وصناعات خاصة جديدة تسد فراغ تراجع دور الدولة أو بعضاً منه بسبب خنق المنافسة وتكافؤ الفرص. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى ارتفاع نسبة البطالة والفقر في ظل التراجع المستمر لدور الدولة في الحياة الاقتصادية. وبناء على ذلك، من الأجدى للدول العربية إعادة النظر في وتيرة هذا التراجع الذي ينبغي ان يُعوّض بوضع آليات مراقبة تسمح باتساع مجال الأعمال الخاص بعيداً من ضغوط الاحتكاريين سواء كانوا تابعين للدولة أو لفئات رجال الأعمال الذين رسخوا أقدامهم في السوق. وهنا لا ينبغي ان ننسى ضرورة إلزام القطاع الخاص بكل فئاته بضرورة تحمل مسؤولياته الاجتماعية كما هي عليه الحال في معظم دول العالم. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - برلين