ما هو المكان، وما معنى خارج المكان، وهل في التجربة الإنسانية ما يحكى عن «اللامكان»؟ وهل هناك مكان بصيغة المفرد، طالما أن الوجود متنوّع، وأن أحوال الأمكنة من أحوال ساكنيها؟ المكان هو ما عاشه الإنسان فيه، والأمكنة بأهلها، وقد تكون في المكان تجربة إنسانية قاسية، أثّثها الوعي السعيد بالذكريات اللطيفة، وفقد سعادته حين اجتاح الزمن المكان وأثّثه بأطلال الذكريات. يتراءى، دائماً، انزياح موجع: انزياح المكان عمّا كانه، وانزياح الإنسان من مكان إلى آخر لم يرغب به. هناك «اللامكان»، الذي عبّرت عنه مخيمات الفلسطينيين بلغة مختلفة. إذا كان في المكان المستقر ما يتعهد الأحلام بالرعاية، فإن في «اللامكان» ما يكاثر الكوابيس ويفرض أكثر من رحيل. استعاد إدوارد سعيد مسار حياته في سيرته: «خارج المكان»، سارداً وضعاً «جغرافياً» لم يشأه بل وقع عليه، وسارداً تجربة في الاغتراب، تواجه مكاناً مألوفاً بمكان غريب، وتجابه شوارع مشى فيها مع عائلته بشوارع ترضي العين وتربك الروح. استولد سعيد دلالة المكان، عريقاً قديماً كان أم جديداً، من تجربة نفسية تعيد بناء أمكنة بعيدة، ذلك أن الأماكن الأليفة تحتضن صخب الطفولة وأحلام الشباب، قبل أن تشهد مجيء الأفول وهدأة الروح. «خارج المكان» عنوان معرض فني، أقيم أخيراً في مدينة عمّان، بالتعاون بين دارة الفنون - مؤسسة خالد شومان الثقافية - ومتحف تيت مودرن في لندن، بمبادرة من سهى شومان (مؤسسة دارة الفنون) وشينا واغستاف (رئيسة المنسقين في تيت مودرن)، وشارك فيه فنانون من جنسيات مختلفة. لا يدور المعرض حول جماليات المكان الممتدة من شجرة وحيدة إلى ساحة تغص بالمتظاهرين، بل تأملت أعماله العلاقة بين «عمران السلطة» والتاريخ الفردي والجماعي، ذلك أن في «العمران السلطوي» فلسفة سياسية تقمع الفرد في شكل رمزي، مثلما أن فيه ما يحرّض المواطن على مقاومة ماكرة. فإذا كانت السلطة القمعية تكشف عن منظورها، واضحاً، في الأدب واللغة والإعلان فهي تعيد إنتاجه، بلغة أخرى، في فلسفة العمارة، حيث للأعمدة الهائلة شكل «القدر»، وللمكان المرتفع المشرف على غيره إطلالة تؤرق العابرين. حاول بعض فلاسفة العمارة، منذ خمسينات القرن الماضي، قراءة التصوّرات الفاشية في الأبنية الهائلة، وعمل بعضهم على اكتشاف روح «ستالين» في نظامه المعماري. استأنف الروماني إيون غريغوريسكو، هذا المنظور وطبقه على رومانيا «الشيوعية»، التي أخذت في زمن تشاوتشيسكو وقبله، بأنماط العمارة السوفياتية، المشبعة برموز تحض على الانصياع. استعمل الفنان، وهو يرصد فترة طويلة، «كاميرا سوبر 8 ملم»، والتقط بها صوراً تكشف عن التعارض بين المعمار السلطوي الثابت المتجهم وحيوية الحياة اليومية، التي أعلنت دائماً أن في سلطة الحياة ما يدمر حياة السلطة. ففي مقابل الكتل العمرانية الثقيلة المتناظرة النوافذ والمداخل والمساحة، نرى أطفالاً مسكونين باللهو والعفوية. هنا تنوع إنساني حي لا يصدأ ويسخر من البنى الصدئة. نفذت الصورة الفنية، القريبة من العفوية، إلى أعماق تصورات النظام، كاشفة عن حداثة قسرية مقيّدة، تقمع الزمن والبشر معاً. اعتماداً على الصورة التي تنفذ من ظاهر البناء إلى داخله، قرأ غريغوريسكو تاريخ بوخارست من عام 1956 إلى 1994، أي إبّان النظام الشيوعي وبعده، معلناً أن مدينته هزمت مرتين، فلا العمارة الشيوعية كانت سوية، ولا العمارة التي تلتها تحرّرت من الشواذ. وما هو شاذ، في العمارة وخارجها، ينتظره السقوط. الفلسطينية أحلام شبلي عرضت أعمالها تحت عنوان «قوطر»، أو «جوتر»، التي هي تحريف محلي للكلمة الإنكليزية «Go There»، من حيث هي فعل مضمونه الطرد والإقصاء. تقرأ صور شبلي، التي تعمل وتقيم في فلسطين، حياة فلسطينيين أزاحهم الاحتلال الإسرائيلي عن أماكنهم الأصلية، وألقى بهم في أماكن جديدة، بحجة «الاستقرار المتمدن»، أو «التمدين المستقر» مصادراً الهدفين معاً، لأن تمدين إنسان يقضي بالاعتراف به. تكشف الصور، التي هي تحليل سياسي واجتماعي، عن تهافت القصد الإسرائيلي، الذي لا يعترف بالقرى الفلسطينية القائمة والمتوارثة، أو التي كانت قائمة وأزيلت، ويجبر «بدو منطقة النقب» على الاعتراف بالقرى الزائفة التي فرضها الاحتلال عليهم. فرق فاجع بين المكان الأليف الذي يعيش الإنسان فيه حراً، والمكان المضاف إليه الذي ينتزع الاستقرار والرضا معاً. من الصور صورة لصبي يلتفت إلى ورائه، قريباً من مخرج يشبه الباب وليس هو بالباب، يجلس على كرسي بلاستيكي، وإلى جانبه ماء في إناء بلاستيكي، وأغراض مصنوعة من البلاستيك، وغرفته كلها، سقفاً وجدراناً وباباً وهمياً، من البلاستيك أو ما يشبهه،... وأمام الصبي، الذي أرادته الحياة صبياً حيّاً، جهاز تلفزيون تطفو على سطحه كلمات غير عربية. تمدين بلغة الاحتلال الإسرائيلية، واستقرار بلاستيكي تعبث به الحرارة وتقتلعه رياح الشتاء. شيء قريب من مجرى النهر، وهو صورة أخرى، الذي جفت مياهه تماماً، ويتحلّق على طرفيه أطفال فقراء، يدركون أن بين خرير المياه وتشقّق الأرض فرقاً كبيراً. والمحصلة إقامة في لا مكان، فما كان قام فوقه بناء إسرائيلي ثقيل، وما هو قائم عارض ولا أركان له. وبين القائم وما كان أطفال يلتمسون أماناً محتملاً، وجندي إسرائيلي، ابتعد عن دبابته قليلاً وارتاح في مكان ظليل. بمقدار ما استطاع الفنان الروماني، الذي يقيم في بوخارست، النفاذ إلى جوهر الخراب متوسلاً الصورة، حوّلت شبلي الصورة إلى وثيقة متعددة الطبقات، تجمع بين السياسة والتاريخ والسلطة والمقاومة، وكهل فلسطيني يجابه «اللامكان» بذاكرة تعرف الفرق بين التراب والبلاستيك. رسمت شبلي، في مجموعتيها «سلسلة الوادي» (207) و «قوطر» (2003)، دور سياسة الاحتلال في تزوير البيئة وتعطيل الجغرافيا وإنتاج بيوت طاردة للإقامة. أقامت «الفلسطينية» الأخرى رلى حلواني معرضها «اجتياح سلبي 2002»، متخذة من رام الله، التي اجتاحها الجيش الإسرائيلي «أثناء عملية السلام» موضوعاً لها. فمثلما طاف الروماني بكاميرا تستنطق علاقة السياسة بالمكان، رصدت حلواني وجوه مدينة مرّ فوقها «جيش الدفاع»، وخلع عليها ملابسه القاتلة. صور بالأبيض والأسود لدبابات وجنود وشوارع خالية ومعتقلين سوّي وجههم بالأرض وتنظر عيونهم إلى السماء، وجثة مجهولة الاسم تتوسط شارعاً مقفراً. غير أن الفنانة، التي تصور وتقرأ وتحتج وتبكي، تعرض «جوهر الصورة»، أو تعرضها «سلباً»، مكتفية ب «النيغاتيف»، كما لو كانت الصور الموزّعة على البياض لم تذهب إلى «المختبر» الملائم بعد. لا تظهر المواضيع بل ظلالها، ولا تظهر «الأشياء» بل الحيّز المقهور الذي تشغله في صورها الواضحة والمؤجلة الوضوح. أرادت الفنانة ما تريد أن تقول: يعيد الاحتلال خلق الوجود على صورته، طارداً الحركة والنور ومحتفياً بالصمت والعتمة، مقصياً الوجوه ومحتفظاً بالخوف الذي يعلو الوجوه. تظهر من الوجوه المؤطرة بالعتمة عيون مضيئة، أو شبه مضيئة، تقاوم العتمة، ربما، أو تضع فيها إرادة الحياة ضوءاً ملتبساً، يفضح الاحتلال ولا يعترف به. تكشف الصور جميعاً عن «الخلق القاتل»، الذي يطرد السوي بعيداً، ويستبقي الشاذ، الذي يحوّل البشر والدبابات وظلال البيوت إلى كتلة عمياء. وفي الشارع المهجور جثة مهجورة، صوّرتها الفنانة بالكاميرا وبأحاسيسها وبحزن داخلي وغضب. فالجثة، كما تقول، لعجوز كان يمشي في «شارعه» كل يوم، قبل أن ينتزع الاحتلال منه الحياة ويحوّله إلى «كومة سوداء». إنها مأساة الانزياح بالقوة، التي تضع جدران البيوت خارج البيوت، وتقتلع من الأمكنة أطياف بشر سكنوها قبل الانزياح. التصوير عند رلى حلواني، لغة وخطاب وكتابة، ورؤية أخرى للوجود، كما كان وكما هو كائن وكما يجب أن يكون. كيف يصوّر الإنسان مكاناً صاغت صوره حكايات العائلة، منذ زمن، وأضفت عليه ملامح أسطورية؟ وماذا يتبقّى من الأسطوري حين يقف الفنان، الذي لم يعد طفلاً، فوق المكان مباشرة؟ الفنان الأرمني، هرير سركسيان، المقيم بين دمشق وأمستردام، صاغ تجربته في متواليات من الصور، تستعيد الموضوع وتعلّق عليه وتحرّره من فتنة الحكايات. قام سركسيان، الذي أقام معارض في أثينا وليفربول وسالونيك، بزيارة أرمينيا بعد انهيار الامبراطورية السوفياتية، وقارن بين «مكان الحكاية» و «مكان المتبقي»، وعبّر عن الفرق من طريق «كاميراته»، حاذفاً الأسطورة ومستبقياً الحقيقة. كان أهله وبمتواليات من الحكايات، في فصل الشتاء والفصول جميعاً، قد ابدعوا له، وهو طفل وصبي، صورة عن وطن بعيد يساوي الفردوس. لكنه بعد الزيارة وجد مكاناً آخر. فليس في المكان «العظمة» التي نسبت إليه، ولا وجود لذلك «الملحمي»، الذي سمع عنه الأحفاد من الأجداد. حوّل الفنان الصورة إلى «وثيقة تاريخية»، تعيد المكان إلى أبعاده الحقيقية، مساوياً بين الانزياح والشك، فما قالت به الذاكرة المتوارثة تصحّحه «الكاميرا». أما التركي جودت إيريك، الذي شارك في معارض تمتد من فيينا إلى نيويورك، فعرض في دارة الفنون، في عمّان، عمله الإنشائي «نصب ظليل»، الذي تناول آثاراً من نصب تذكارية للفيالق الأممية التي حاربت في الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939)، وأعاد صياغتها مستخدماً تقنية الكولاج. والحرب المذكورة، التي شارك فيها الأديب الفرنسي الراحل أندريه مالرو، كما النصب التذكارية التي تحيل عليها، لا تنقصها صور البطولة الجماعية ولا المهابة. غير أن عمل الفنان لا يطمئن كثيراً إلى السرد التاريخي المتحزّب، ويعيد صوغه بإشارات من ظلال، توحي بشيء وتعلق عليه، ذلك أن الظلال لا تساوي تماماً قامة مواضيعها، وهي تسير إلى الأفول. ما الفرق بين «الشيء كما كان» وظلاله التي يقرّرها العمل الفني، وإذا كان المتبقي من «الشيء» هو ظلاله، فكيف السبيل إلى أخذ ما كان كأنه حقيقة؟ عاين الفنان «واقع الأيديولوجيا»، الذي بدا صلباً ذات مرة، وقبض عمله على «غيوم الأيديولوجيا» موحياً، برهافة عالية، بأن العمل الفني لا يقبل بوعي «مستقر» وأن في وعي الإنسان الشكوك ما لا يقبل التأطير. إذا كانت الأعمال الفنية «تقحم» عادة، على أماكن «لا فن فيها»، أو تضاف إلى فضاءات مصطنعة المظهر، فإن هذه الأعمال في «دارة الفنون» تنتهي إلى مكان أليف، مكان قديم محوّط بالخضرة، أصلح قديمه وبقي محتفظاً بعبقه القديم. يقال انه كان مكان إقامة لشاعر مشهور، ويقال إن «لورنس العرب» مرّ به، وأن أعياناً عرباً وشخصيات إنكليزية اختلفت إليه، لكن الأكيد أن هذا المكان العريق بأشجار الرمان والورود المتناثرة فيه والأعمدة الرومانية الباقية وبعض القطع الفنية الموزعة على أرجائه، يوحي بما تحتضنه قاعاته. يلفت الناظر، لحظة الدخول، تمثال معدني لإنسان هربت ملامح وجهه من مكانها واستقرت بين يديه كأنها قناع، تاركة مساحة الوجه فارغة، كما لو كان الوجه الذي رحّل ملامحه إلى خارجه فراغاً صامتاً غادرته الحياة. يفصح المكان عن مضمونه في شكله الموزّع على جمالية الطبيعة واجتهاد الفنون. من أين تأتي قوة الفن؟ من الإيحاء الهامس الذي يرفض التلقين والأحكام النهائية الزاجرة؟ ومن أين تأتي قوة الفن الذي يحاور السياسة؟ من قوة مواضيعه، ذلك أن المواضيع الصغيرة لا تصنع فناً كبيراً، ومن التقنية الفنية المتجدّدة، ذلك أن تاريخ المواضيع كلها هو تاريخ التقنية التي صنعتها. طرح معرض «خارج المكان» السؤالين معاً، وأجاب عنهما بنجابة سهلة، جامعاً بين التركي والأرمني والروماني والفلسطيني، وجامعاً تعاوناً «حوارياً» بين مسؤولة إنكليزية تلتزم قضايا الفن، وفنانة عربية مسؤولة ترى في نشر الثقافة الفنية رسالة إنسانية، تحتاجها المجتمعات جميعاً وتحتاجها، أولاً، مجتمعات تقترب من الحداثة وتبتعد عنها في آن.