بدأ خروج الولاياتالمتحدة من حربها المكلفة التي دامت عشر سنوات في أفغانستان. إنها خطوة مرحّب بها، ولكن هل ستكون سلاماً مشرِّفاً؟ الأمر غير مؤكد إطلاقاً، إذ إن الغموض لا يزال يكتنف الآفاق الطويلة الأمد. ساهم تطوّران في الآونة الأخيرة في تحسين المشهد، وإن لم يكن في الشكل الجذري الذي قد يرغبه البعض حتى الآن. أولاً، تم الإعلان في كل من واشنطن وكابول عن بدء محادثات مع قيادة «طالبان»، أو على الاقل عن اتصالات في شكل من الأشكال، يُعتقد أن وسطاء ألماناً يضطلعون بدور فيها. ثانياً، أعلن الرئيس باراك أوباما عن جدول زمني جريء إلى حدٍ ما لانسحاب القوات الأميركية متحدياً بعض مستشاريه العسكريين المتشدِّدين الذين أرادوا انسحاباً أكثر حذراً. ومن أصل ما يقارب 100 ألف جندي أميركي في أفغانستان اليوم، سيعود 10 آلاف إلى ديارهم خلال فصل الصيف الجاري، فيما سينسحب 23 ألفاً آخرين بحلول شهر أيلول (سبتمبر) 2012 (في الوقت المناسب لتترك عودتهم أثرها على الانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني / نوفمبر)، على أن يعود قسم كبير من الجنود لمتبقين البالغ عددهم 67 ألفاً في نهاية 2014 حين ستتحمل القوات الأفغانية مسؤولية الأمن في بلادها. أما العقبة التي تعترض هذا الانسحاب فهي محادثات في شأن بقاء نحو 20 ألف جندي أميركي في أفغانستان في قواعد أميركية دائمة. لا ريب في أنها تنوي مواصلة تأدية دور مكافحة الإرهاب في كل من أفغانستانوباكستان المجاورة لها، إلا أن استمرارها قد يؤدي إلى نتائج معكوسة نظراً إلى أنها ستثير معارضة شديدة في كل من إيرانوباكستان، وحتماً في أفغانستان أيضاً. ولكن هذا الأمر يتعلق بالتطلع إلى الآفاق البعيدة، أما الرسالة التي تريد واشنطن إيصالها حالياً فهي أن فك ارتباط الولاياتالمتحدة مع ميدان الحرب الأفغاني الباكستاني قد بدأ. والدافع وراء الانسحاب هو الإرهاق الواضح الذي تعاني منه الولاياتالمتحدة جراء الحرب. وقد أدرك السياسيون الأميركيون من الحزبين أن الشعب الأميركي قد نفد صبره ممّا بدا أنه نزاع يتعذر الانتصار فيه ويريد الانسحاب. كما أن أميركا الرازحة تحت العجز، وتعاني معدل بطالة مرتفعاً ومن بنى تحتية متداعية، تعجز بعد الآن عن تحمُّل التكاليف الباهظة المترتبة على الحرب الأفغانية. لقد وصلت فاتورة الحرب في العقد الأخير إلى 450 بليون دولار، علماً أن مبلغ 120 بليوناً منها كان قد أُنفق خلال السنة الفائتة وحدها. وتجدر الإشارة إلى أن النفقات على الحرب تبلغ حالياً بليوني دولار أسبوعياً! يدرك أوباما تمام الإدراك ضرورة إيقاف ذلك، بيد أن سياساته لا تزال تعترضها الخلافات والاضطرابات. فالفكرة السائدة في الولاياتالمتحدة تفترض إضعاف حركة «طالبان» أولاً، إن لم يكن إلحاق الهزيمة بها فعلياً، قبل أن تتمكن مفاوضات جدية من النجاح. وهذه الحجة كانت وراء زيادة عدد الجنود الأميركيين التي وافق عليها أوباما السنة الماضية. إلا أن «طالبان» برهنت عن قدرتها على المقاومة. لقد تقهقرت ربما هنا وهناك في وجه الضغوط الأميركية الهائلة، ولكن هجمات الكرّ والفرّ التي تشنّها والتفجيرات الانتحارية أصبحت أكثر تكراراً وقتلاً من أي وقت مضى. كما أنها وسعت أنشطتها لتطاول الأقاليم الشمالية بعيداً من معقل جماعاتها من البشتون. قد يثير قتل زعمائها بقصف صاروخي البهجة إنما كانت نتيجته استيلاء المزيد من القادة الراديكاليين على السلطة، من الرجال الأكثر شباباً الذين لا يميلون إلى المفاوضة كأسلافهم الأكبر سناً. وباختصار، لقد برهنت سياسة «اقتلهم أولاً وتفاوض لاحقاً» عن فشلها. هل كان يتعيَّن على أوباما أن يكون أكثر جرأةً؟ إليكم بعض الخطوات التي كان في مقدوره، ولا يزال، أن يتخذها. * الدعوة إلى وقف إطلاق نار فوري من أجل تهيئة البيئة الصحيحة لمحادثات سلام. حين تصمت البنادق، يمكن إجراء مفاوضات في أفغانستان، أو في تركيا أو قطر، أو دول تتمتع بسجل حافل بالقدرة على الوساطة. * استدعاء كل الدول المجاورة لأفغانستان، أكانت الولاياتالمتحدة مقرَّبة منها أم لا، إلى مؤتمر دولي يمكن أن تُناقَش فيه أوجه المشكلة الأفغانية كافة علاوة على التطرق إلى مصالح الجميع في البلاد، من أجل بروز الملامح الأولى لاتفاق. أما الهدف من ذلك فيكمن في مشاركة الدول المجاورة لأفغانستان، القريبة منها والبعيدة، في الحوار. * متابعة المؤتمر الدولي من خلال «لويا جيرغا»، او اجتماع موسّع للقبائل تشارك فيه كل الفصائل الأفغانية وتناقَش فيه تفاصيل اتفاق السلام الذي يحظى بدعم دولي ويُبرم في صيغته النهائية. * تشجيع الرئيس حميد كارزاي على تعيين لجنة لإعداد مسودة دستور أفغاني جديد بصورة ملحّة. اذ لا يصلح النظام الرئاسي الحالي الذي يقوم على مركزية كبيرة في بلد مؤلف من أقاليم وجماعات إثنية متنوعة. * التعهد بسحب جميع قوات الولاياتالمتحدة ودول التحالف عند تطبيق اتفاق السلام. * الوعد بتمويل رزمة مساعدات واسعة على امتداد عشر سنوات، تُنفق حين يتحقق السلام. ثمة عوائق كثيرة تحول دون تطبيق إستراتيجية سلام مماثلة، ويعزى معظمها إلى سياسات أميركا الخاطئة في المنطقة. بالنسبة الى إيران: لجمهورية إيران الإسلامية حدود تمتدّ على نحو ألف كيلومتر مع أفغانستان، وتبقي ايران هذه الحدود تحت المراقبة الشديدة لحمايتها من هجمات قد يشنّها تنظيم «القاعدة» وغيره، ومنع تدفق المخدرات الأفغانية عبرها، وحماية المجموعات المتحالفة معها في أفغانستان، أكان لأسباب دينية أم إثنية. لقد بلغ تدخّل إيران في الشؤون الأفغانية حداً أصبح من المستحيل معه التوصّل إلى أي تسوية مُرضية في هذا البلد من دون مساعدتها وموافقتها. وبدل أن تتعاون الولاياتالمتحدة مع إيران في شأن أفغانستان، وفي مسائل أخرى، حذت حذو إسرائيل في السعي إلى شلّ إيران عبر فرض العقوبات عليها، وتقويضها متى سنحت الفرصة، وتصويرها كشيطان يشكّل خطراً محدقاً بالمصالح الأميركية وبالبشرية في شكل عام. وكان رجال الدين المتشددون في إيران المستفيد الوحيد من هذه السياسة العدائية. وفيما تتخبط واشنطن في قبضة مجموعات المصالح الخاصة لديها، تبدو عاجزة عن التفكير بوضوح حيال إيران. وعليه، ستخيب آمالها في شأن تحقيق نتيجة مُرضية في أفغانستان. بالنسبة الى باكستان: عاملت الولاياتالمتحدةباكستان باستهتار – إذ انتهكت سيادتها بتنفيذ عمليات سرية (على غرار قتل أسامة بن لادن) وشنت هجمات عدة بطائرات من دون طيّار ضد مجاهدين إسلاميين أدّت لا محالة إلى وقوع ضحايا في صفوف المدنيين. وكانت النتيجة تأجيج شعور العداء ضد الولاياتالمتحدة. كما أدّت «الحرب على الإرهاب» التي خاضتها الولاياتالمتحدة إلى زعزعة استقرار باكستان في شكل كبير، واضطرت إلى مواجهة اعمال ارهابية على أراضيها بسبب اعتبار أنها تخوض حرباً ضد شعبها بالنيابة عن اميركا. فالولاياتالمتحدة تمنح بلايين الدولارات سنوياً لباكستان بهدف محاربة المجاهدين، وتنتقدها لاعتمادها مواقف متناقضة حيال هؤلاء المجاهدين الإسلاميين، وترفض الاعتراف بأن باكستان تشعر بالحاجة إلى هؤلاء لحماية نفسها من احتمال تدخل الهندي في أفغانستان حين تنسحب القوات الأميركية منها. وعلى غرار إيران، تضطلع باكستان بدور مهم جداً في أي تسوية أفغانية، غير أنها لن تؤدي هذا الدور إلا في حال تم فهم مصالحها ومراعاتها. بالنسبة الى أفغانستان: أفسدت بلايين الدولارات التي ضخّتها الولاياتالمتحدة في أفغانستان الرئيس كارزاي ومجموعة أمراء الحرب ورجال الأعمال الفاسدين في الحكم. وأصبح سيْل الأموال الطائلة بمثابة الإدمان. وتم هدر قسم كبير من هذا المال أو انتهى به المطاف في جيوب المسؤولين. وتكمن معضلة كارزاي اليوم في كيفية الاستمرار من دون مصدر الثراء هذا. فهو يأمل على ما يبدو في أن يبقي تأجير القواعد العسكرية إلى الولاياتالمتحدة في المستقبل على تدفق الأموال. إن برنامج مساعدات يتم ضبط توزيعها، ويهدف إلى توفير فرص عمل للشباب الأفغاني عبر تنمية الموارد المعدنية الهائلة التي تختزنها البلاد، سيشكل حتماً أسلوباً أفضل لإنفاق أموال ضرائب الشعب الأميركي بدلاً من شنّ حرب مدمرة تثبت يوماً بعد يوم عدم جدواها. * كاتب بريطاني مختص في شؤون الشرق الاوسط