لا توجد في السياسة قاعدة ثابتة يمكن الاحتكام إليها سوى المصلحة، فهي الحافز الأساس والمحرك الوحيد، وطبقاً لهذه المصلحة يمكن تحديد اتجاه البوصلة، لذلك فإن مسار الأمور في السياسة يعمل دائماً وفقاً للمصالح. وعند تناول الشأن الفلسطيني، فإن المصلحة الوطنية للقضية الفلسطينية هي الأساس وهي المنطلق لكيفية العمل والتحرك بالنسبة إلى الفلسطينيين. لنحدد أولاً أين موقع فلسطين لنقرر اتجاه المسار، بغض النظر عن أية مصلحة حزبية مهما علا شأنها، فالوطن يجب أن يكون دائماً فوق الجميع، لأنه بلا جدال الأكبر مكانة والأعظم شأناً والأكثر أهمية. لا شك في أن معظم الفلسطينيين، بمختلف أطيافهم، يرون أن المصالحة الوطنية التي تحققت أخيراً بين حركتي «فتح» و «حماس» هي المصلحة الوطنية العليا ويتطلعون إلى اليوم الذي تتجسد فيه هذه المصلحة واقعياً على الأرض بإنهاء الانقسام واسترداد الوحدة في شكل حقيقي يلمسه الجميع في مختلف نواحي حياتهم. ويرى كذلك المعنيون بالشأن الفلسطيني أن المصالحة ضرورة ملحة بخاصة في ظل التحديات الراهنة والخطيرة التي تواجه القضية الفلسطينية وتتهددها. ويعتبرون أن قرارهم أن يتوحدوا هو أبسط رد يمكن أن يتخذه الفلسطينيون. لقد تحققت المصالحة بفضل مصر بعد ثورة 25 يناير حين وقعت «حماس» على الورقة المصرية للمصالحة. ولكن حتى الآن لا تزال المصالحة تراوح مكانها مصطدمة بملف الحكومة الذي يقف عائقاً أمام اكتمالها. وعلى رغم أن تحقيق المصالحة يعد إنجازاً مهماً، إلا أن من يتمعن في المشهد الفلسطيني يدرك أن المصلحة تقتضي إرجاء البدء في تنفيذ ملف الحكومة، الذي يعتبره الكثيرون عنوان المصالحة، وذلك لأسباب موضوعية منها الموقف الإسرائيلي المتعنت إزاء العملية السلمية، والانحياز الأميركي السافر الى الجانب الإسرائيلي، والدعم الدولي لحكومة سلام فياض والذي يمكن أن يتبخر في حال تشكيل حكومة فلسطينية جديدة لا يكون فياض على رأسها، واستمرار الاستيطان وإجراءات تهويد القدس التي لا تتوقف، واستحقاق أيلول (سبتمبر) الذي تسعى القيادة الفلسطينية إلى تحقيقه والذي يتوقع كثيرون فشله. فالفلسطينيون لا يريدون أن يستخدم الغرب موضوع الحكومة الفلسطينيةالجديدة ذريعة لعدم دعم الخيار الذي يتطلعون إليه وهو الحصول على الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967 وقبولها عضواً كاملاً في الأممالمتحدة. ربما تصدم كثيرين هذه القراءة للمشهد الفلسطيني وما يتعلق بالدعوة إلى تأجيل ملف الحكومة، لكنها قراءة تستند إلى مسوغات عدة. أولاً في ما يتعلق بموقف الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي صرح بأن المصالحة بين «فتح» و «حماس» تشكل عقبة في طريق السلام. ثانياً تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو الذي قال إنه لن تكون هناك مفاوضات مع الجانب الفلسطيني في ظل حكومة شاركت في تشكيلها «حماس». ثالثاً: إنه في حال تشكيل حكومة فلسطينية بتوافق بين «فتح» و «حماس» فإن أميركا وإسرائيل ستتحركان معاً وتضغطان على المجتمع الدولي لوقف الدعم المادي عن الفلسطينيين في وقت هم في أمس الحاجة إليه. رابعاً: المتغيرات في المنطقة والثورات العربية التي تشغل العالم. إن السياسة هي فن الممكن، وخيار تأجيل تشكيل الحكومة يحترم العقل الفلسطيني الذي يجب ألا يخدع لأنه قادر أن يستشعر ببساطة ومن خلال خبراته التي صقلتها سنوات نضاله الطويلة أن أي خطوة سيقدم عليها يجب أن تكون ثابتة ومحسوبة وليست قفزة في الهواء. لذلك فإن الرد العملي على الفيتو الأميركي المتوقع إرضاء لأسرائيل بإفشال استحقاق أيلول (سبتمبر) هو تشكيل حكومة وحدة وطنية يتوافق عليها الفلسطينيون. ليس بمقدور أحد بعد ذلك أن يلوم الفلسطينيين بعد أن ألغوا الذرائع كافة واستنفدوا كل ما في جعبتهم من أوراق من أجل كسب الجانب الأميركي. * من أسرة الحياة