على مدى الأيام الثلاثة الماضية، أقيمت ضمن مهرجان أبوظبي أمسيات موسيقية تحت عنوان «بيت الفارابي» في قاعة الاحتفالات بقصر الإمارات، بعدما قرر المهرجان تكريم ذلك العلامة والموسيقي العربي الكبير من القرن التاسع (874 – 950). يعتبر الفارابي من أوئل المفكرين المسلمين، تلقى علومه في فاراب وبخارى وبغداد، أتقن لغات عدة، وساهم في نقل علوم أفلاطون وأرسطو إلى العالم العربي الإسلامي، وقدم في كتابه «كتاب الموسيقى الكبير» نظرة فلسفية شاملة إلى علم الموسيقى. وفي أطروحته «معاني الفطنة»، أدرك الآثار العلاجية للموسيقى في النفس والبدن. تحت اسم الفارابي وتحية له، نظم مهرجان أبوظبي سلسلة نشاطات، ففي رحلة لاستكشاف تلك التجربة العميقة، بدأ الفنان العراقي أنور أبو دراغ، وهو مؤلف موسيقي وملحن ومطرب، أمسية «رحلة المقام» بتقديم مقام على آلة الجوزة (آلة موسيقية تصنع من جوز الهند، مجوفة، وتصدر نغماتها عن أربعة أوتار) في قطعة للموسيقار الراحل روحي الخماش. وغنى «وين رايح وين» يرافقه الرقّ والقانون وآلة السنطور، ما أشاع شجناً سحرياً بين الحضور، سرعان ما تبدّلت قماشته مع أغنيتي «أم العيون السود» و «الليل»، لتتوالى الأغاني والألحان تغازل الجمهور، حتى جاء أخيراً مقام «همايون» وأغنية «فوق النخل» التي تعود إلى القرن ال19، وهي من ألحان الملا عثمان الموصلي. وقد بدأت هذه الأغنية دينية، ثم في سورية والعراق وبلاد الشام عموماً، أضيفت إليها كلمات وتغيرت أخرى، فتحولت إلى الصيغة التي نعرفها بها اليوم وانتشرت. وفي حديث مع «الحياة» يقول أبو دراغ: «نحن كموسيقيين، نحاول تغيير الفكرة السائدة عن أن هذه الموسيقى منتهية، فالمقام العراقي مثلاً نهر خالد، كل جيل يستطيع أخذ شيء من هذا اللون في لوحاته الموسيقية. علينا فقط أن نتعامل معه بذكاء ونكيّفه مع مفردات العصر». ويضيف: «نعرف أن ناظم الغزالي أخرج المقام العراقي من دائرة المحلية، على رغم أنه تزامن وعمالقة، لكن ذكاءه جعله يقدم المقام بروح العصر». ويشرح أن المقام العراقي بدأ غناءً دينياً للمناقب النبوية والاحتفالات ذات الطابع الصوفي، ثم أصبح يُغنى في القصور ومقرات الحكم، وعمره يصل إلى 1400 سنة، إنما لم يكن له تدوين موسيقي على مدى قرنين، ثم بات يؤدّى في المقاهي البغدادية يومياً ويأتي الناس لسماعه من أبعد الأماكن. ويضيف أبو دراغ: «المقام العراقي هوية شدّني تفردها، كونه من أركان الغناء العربي، إلى جانب الموشحات الأندلسية والأدوار الحلبية وغيرها. بقي ثابتاً عبر الأجيال كنتاج أمة، ويدهشني تلوّنه بين الشعر الفصيح أو الزهيري (رباعي أو سباعي) والشعر الشعبي أو الأبوذيات والذارميات. وانطلاقاً من إيمانه بأن «الموسيقى في كل شيء، وهي حياة الحياة، والكون يسير في إيقاع»، يحاول أبو دراغ تحديث المقام وإسباغ روح العصر عليه، وذلك من خلال مشروع جديد أعلن عنه خلال أمسيات «بيت الفاربي»، بالشراكة مع أستاذ العود نصير شمّة. وفي هذا السياق، يخبر عن تأسيسه العام 2010 مدرسة المقامات الموسيقية العربية والمقام العراقي في بلجيكا حيث يقيم، وهي تعد الأولى من نوعها في أوروبا، ويتوقع أن تتسع رقعة الدارسين فيها خلال السنوات الخمس المقبلة. ويقول: «اكثر طلابي أوروبيون، إضافة إلى عرب مقيمين في بلجيكا، وبدأت أتلقى دعوات من إسبانيا لمدّ نشاط مدرستي إلى هناك، ولإقامة ورشات تدريبية كالتي أقيمها سنوياً في اليونان. وعلى رغم أني لا أملك دعماً، أنا مصرّ على الاستمرار في المدرسة كهدية مني ومن محبي الموسيقى إلى العراق». جرعات حب وفي الليلة الثانية، خلال أمسية «أثر الشرق»، حل الفنان التركي غوكسيل باكتاغير، صاحب الشعبية الكبيرة في تركيا، ضيفاً على جمهور مهرجان أبوظبي، مع عازفي العود والقانون والناي والكمان ضمن فرقته، رافقهم عازف العود التركي بيلين إيشيكتاس في معزوفة مستوحاة من تراث آسيا الوسطى، تلاها المقام التركي «ماهور». وفي معزوفة «غريب»، عبّر باكتاغير في عزف منفرد عن شخص عاش معاناة في شكل «سازمايسي»، وهو أحد الأنماط التركية في مقام «هيكاز». ثم جاءت معزوفة «تشوجوكلو أوم» (كطفل) لتعود إلى ذكريات الطفولة وتخفف من أثر الحزن الموسيقي الساحر لمصلحة فرح مُسترق، وكأن العيد أطل على القاعة. وفي جو من الغموض أدخل باكتاغير جمهوره في بعد آخر مع معزوفة «أطلانطس». وعبّر باكتاغير عن سعادته بزيارة أبوظبي، لا سيما أن «بين تركيا والعالم العربي تقارباً ثقافياً كبيراً»، مضيفاً أن «شعبية هذا النوع من الموسيقى في تركيا أفضل حالاً منها عربياً، إذ ما زال جمهور عريض من الشباب التركي يهتم بها، ويرى موسيقيون أن السبب هو تطويرها المستمر». وشرح: «نضيف إلى موسيقانا أنواعاً جديدة، فنمت شعبيتها، بيد أننا مازلنا في حاجة إلى دعم، خصوصاً أن الموسيقى التجارية تنحط بالمشاعر». ويعترف الموسيقي، الذي سيُصدر قريباً ألبوم «قلبي جوشكو» (قلبي جذل)، مع مجموعة ضخمة من الموسيقيين بعد سنوات من التحضير: «في صباي، دفعني حب كبير في اتجاه الموسيقى، والبشر يحتاجون إلى جرعات من الحب حتى يفهموا الموسيقى العالية». أبعد مدى وفي ختام الأمسيات، أذهل الملحن الإماراتي فيصل الساري الجمهور، بمعادلة موسيقية خلاقة بعنوان «مزيج» من الشرق والغرب. وبين «كابريتشو: لو كان لي الجناح» و «الأب الروحي»، عاش الحضور تجربة لافتة مع العود والبيانو والرق. ومن التراث الإنكليزي قدم «رومانس»، ثم «الدوري الطائر» و «مالاغوينا ريجونال»، تلتها معزوفة «غارسيا لوركا» وأخيراً مقطوعة موسيقية بعنوان «روح الاتحاد». يقول الساري: «أحاول أن أذهب إلى أبعد مدى، لا سيما أن سمعنا الموسيقي يكاد ينحصر في الأغاني الرائجة اليوم، ويهمل كثيرون هذا الصرح الكبير في ثقافتنا، ومن خلال هذه الحفلات في «بيت الفارابي» نحاول جعل الجمهور يعيد إدراك الموسيقى».