يجد بعض المثقفين العرب، الحداثيين طبعاً، أن الطوائف والأقليات البارزة اليوم اصطُنعت اصطناعاً، لتدمير أو زعزعة الهويات الوطنية الجامعة، المعبرة، بالتعريف، عن نموذج الحداثة العالمية، فما دام للكل أوطان موحدة فما الضير أن تكون لنا المآلات نفسها. قبل عقدين من اليوم، كان نفس هذا الجيل الحداثي، يتشكى من وجود الهويات الوطنية، باعتبارها تخريباً، لهوية أعلى، عربية. والحال إن الجماعات الصغيرة، المسماة طوائف، أو مذاهب، والمسماة أقليات دينية، وعرقية، أو إثنية، تبدو في هذين الخطابين الشاكيين بمثابة غرائب سوسيولوجية عائدة من المقابر، أو مخلوقات قادمة من المريخ أو من مجرات بعيدة، إن اردنا استخدام لغة الخيال العلمي. اين كانت الطوائف والإثنيات والأقليات الدينية التي نعجب كثيراً، ببراءة تكاد أن تكون متكلفة، ل «عودتها» أو حتى «اصطناعها». العودة تفترض الارتحال، والاصطناع يفترض العدم. اين عدم الطوائف والأقليات، أو اين موئل ارتحالها، إلى بلاد اين؟ أو اللا اين؟ ينسى الخطاب الحداثي المغتاظ وقائع التاريخ القريب. وحين يقلب المرء أوراق التاريخ العثماني (حتى 1917) فلن يرى في وجود الطوائف والمذاهب والأقليات، والقبائل، وبيوتات الأعيان، مثار غرابة، بل الغرابة كل الغرابة في القدرة على إنشاء دول وطنية، والحفاظ على تماسكها على امتداد القرن العشرين، وبتعبير أدق منذ عشرينات القرن المنصرم، عقد تأسيس الدولة العراقية، والعقود التي تليه بما شهدته من نشوء دول وطنية. انحدرت كل هذه الدول من ماض سلطاني، وهو نموذج سياسي أوتوقراطي، بالكاد يتوافر على إدارة حديثة، وجيش دائم، ومؤسسات مشاركة. ولولا بعض تحديث من أولياء امرنا العثمانيين، لما سمعنا بدستور، أو انتخابات. وإن المرء ليعجب من جموح مطامح «الاتحاد والترقي» الذي انقلب على السلطان العثماني، عبد الحميد الثاني، عام 1908، ومطامح الدستوريين الإيرانيين الذين اشعلوا ثورة المشروطية قبلئذ عام 1906، في تشوفهم إلى بناء دولة حديثة، ملكية دستورية مقيدة، وإجراء انتخابات. ولكم كانوا حكماء يوم نظموا انتخابات على مرحلتين. مرحلة أولى يختار فيها الجماعات (أحياء، مدن، عشائر، إثنيات) مندوبين عنها، ليتولى هؤلاء انتخاب نواب إلى البرلمان. فالانتخابات عملية تفترض المعرفة بالأبجدية، والمعرفة السياسية، والاختيار الفردي، وهي أمور غائبة في مجتمع زراعي، قروي الطابع، عشائري أو اسري التنظيم، خرافي التفكير. ولكم كان أولئك العثمانيون حكماء أيضاً يوم نظموا تمثيل الجماعات والمناطق، من مسيحيين وموسيين، ومن قبائل ومدن وبيوتات، بمعنى انهم أسسوا لأول نظام توافقي مما يعمل به اليوم في ديموقراطيات متقدمة مثل بلجيكا وهولندا. كان قادة الماضي يوحدون الأصقاع المترامية لمجال حكمهم بالمصاهرة مع القبائل، لكي تقوم صلة الرحم مقام اللاصق، الموحد. وفي مجتمعات اليوم «الحديثة» يصعب على عاهل أو رئيس، حتى لو بقي مدى الحياة، كما هي الحال حقاً، أن يعاشر بنات كل القبائل والأسر والمدن، لخلق مثل هذه الوشائج المقيمة. لقد تحولت هذه الأوطان المنكودة بامتياز، من عالم الزراعة الحرفي، إلى رحاب مجتمع الصناعة والخدمات، لتجد أمامها حداثيين يلهجون بوحدة الأوطان الكبرى والصغرى، ويمارسون احتكاراً مدمراً مزق القليل من النسيج المدني الذي نما وجلاً. فدمروا، اول ما دمروا، مؤسسات المشاركة التي باتت حكراً على حزب واحد أو زعيم واحد. وانتقلوا إلى الميدان الخاص، والميدان العام، ليمسكوا بزمام الثروة باسم تنمية مفترضة، ففاقوا أثرياء العالم ثراء. ثم دلفوا ميدان الروابط المدنية للطبقات الحديثة، من نقابات، وجمعيات، وأحزاب يسارية أو ليبرالية، فجردوا أفرادها من حماية تنشأ عن التكاتف الجمعي. ثم التفتوا إلى القضاء فازدروا به، واستعاضوا عنه بمحاكم خاصة، (محكمة الثورة عند صدام)، أو محاكم عرفية (عند سلفه عبد الكريم قاسم)، أو محاكم امن دولة عند مقلديه (الأسد ومبارك). وفقد الشعب، أو الأمة، وا المجتمع، آخر متراس للحماية من غول اللاقانون. ما القانون سأل صدام ذات مرة أستاذاً في الحقوق؟ «إرادة الحاكم» أجاب الذليل. اين يولي أفراد «الشعب»، «الأمة»، «المجتمع»، وجوههم إزاء دولة تلهج بالحداثة، وتقيم سلطتها على «الأسرة». وتنطق بالنظريات الفكرية، وتمارس أعراف القربى، اين يولي أولاء وجوههم؟ الجواب هو العودة إلى نظام القرابة، إلى الولاءات الأولية، تقهقر إلى الماضي السعيد، يوم كانت الجماعيات المحلية تحمي الفرد، مقابل امتثاله لأعرافها. حين تغدو الدولة-النخبة كل شيء، يتحول المرء، الفرد، المواطن، ابن الشعب، إلى لا شيء. من عساه يحتمل هذا العدم. لا احد. وحين يختفي القانون، وتختفي روابط الطبقات الجديدة، الهشة بالتعريف، ويزول وجودها العضوي ممثلاً باتحاداتها ونقاباتها، لا يبقى في هذا الخواء العدمي سوى روابط الماقبل، سوى القبائل والأسر والطوائف، والإثنيات القديمة. وتترسخ هذه الحال بعامل مؤثر وفاعل: الاقتصاد. في الاقتصاد القديم تقوم الأصناف الحرفية، ونقابات التجار، مقام جماعيات حامية، وفي الاقتصاد الحديث، تقوم اتحادات الصناعة، وغرف التجارة، ونقابات العمال، وجمعيات أصحاب المهن الحرة، الحديثة، مقام جماعيات حامية، عابرة للإثنيات والمذاهب والطوائف، فالفلاح بإزاء مالك إقطاعي، والصناعي بمواجهة عامل، والتاجر بمواجهة مستهلك. والنقود لا رائحة لها، كما لا دين لها ولا مذهب. انزع هذه الحاضنة، يتهاوى المجتمع الحديث، مجتمع المواطن الذي تتباكى على فقدانه مئات الأقلام العربية. انزع هذه الحاضنة وضع الاقتصاد النفطي الريعي، وينتهي الأمر. أو، إن تعذر ذلك فلتقم شراكة بين الزعيم (وبطانته أو أسرته) ورجال الأعمال: السلطة مقابل المال.ذا يتعذر على أي باحث عربي أن يعرف الثروة المكدسة في جيوب زعماء الحداثة العرب؟ ولماذا يتعذر على أي واحد منهم حتى مجرد التفكير في الأمر؟ هذه الأسئلة ضارة. الأفضل البكاء على أطلال الدولة الحديثة التي دمرها الحداثيون بمعاول من فولاذ. والأفضل أيضاً إنكار وجود التنوع الطائفي والإثني والأقلياتي. بل افضل من ذلك إحالة ذلك كله إلى قوى خارجية غامضة تريد بنا شراً. أما نحن فموحدون من الأزل إلى الأزل. أخيراً، في خضم التدمير المنظم للقوى اليسارية والليبرالية، الحديثة بالتعريف، جاء خواء فكري احتلته قوى محافظة، على قاعدة إسلام سياسي، منقسم مذهبياً بالضرورة، ومعاد للأديان المغايرة بالضرورة، ومناوئ للديموقراطية التمثيلية بالضرورة. هذا نتاج سياسة الحكام الحداثيين، ونتاجهم وحدهم. بعد هذا نسأل باستغراب بريء، يقارب السذاجة، لماذا عادت الهويات الجزئية، ولماذا انزوى خطاب الأمة الكبرى، أمام خطاب الوحدة الوطنية الصغرى. متى نكف عن خداع النفس؟