من يتأمل المشهد الثقافي السعودي يجد أن خطه البياني يتأرجح كثيراً، والكل يبدي أسباباً، والكل يمنح نقده، ولكن يظل المشهد هو هو بين الصعود والهبوط. عبدالله الزيد شاعر وكاتب من جيل الثمانينات الذي أحدث ثورة في اللغة الثقافية في مجتمعنا السعودي ولكن ذلك الجيل بكل نجاحاته سرقوا منه الحلم وأدخل في صراعات لا أول لها ولا آخر،. وفجأة وجدوا أنفسهم خارج المعادلة الثقافية بل وجدوا أنفسهم متهمين بلائحة كتبها أنصاف أنصاف من يرون أنهم محسوبين على المجتمع. التحق بالإعلام وهناك فقد كثيراً من وهَجه بحسب قوله هو، فهو يرى أننا بلا هوية ثقافية أو إعلامية، ولا توجد مرجعية واحدة للثقافة في لادنا لذا يختلط الحابل بالنابل. نلمس في حديثه ألماً لا حدود له وانكساراً على واقع مرير لمكوّننا الثقافي وحسرة على فرص تمنح لفئة تسيء أكثر مما تبدع. يدافع عن تجربة الحداثة ويدين لها بأشياء كثيرة. عندما تستمع لنبرة صوته يعتريك حضور آخر له، على رغم ابتسامته وعذوبة محياه إلا أنه بركان نحرص كل الحرص ألا ينفجر أمامنا. فإلى الحوار: لماذا تتكاثر الأسئلة حولك أينما حللْتَ؟ - لا أتفق معك في أن ذلك حاصل فعلاً، فلم يمرّ بي يوماً ما شعور بأني محور اهتمام كبير أو أسئلة كثيرة، وإذا كان شيء من ذلك حاصلاً - كما تشير أنت - فإنّ أخشى ما أخشاه أن يكون نوعاً من ذلك الامتعاض الذي يصاحب كثيراً من الحالات غير المقنعة أو غير المستوعبة، إذ ترد هنا جملة من الكوارث لعل في مقدمها: أني أدخل في كثير من مهماتي وأدواري بآلية لا يتفق عليها جميع المهتمين، أو أن أقدم اعتدادي بذاتي على مجموعة من الاعتبارات المطلوبة، وإجمالاً: كثرة الأسئلة ليست دليلاً لا يتخلّف عن التفوق والانمياز. غيابك... هل هو هواية أم غواية؟ - المسألة فيها تفصيل كما يقول أهل الشرع والقانون: فإن كان المقصود بالغياب التوقف والإمحال والنضوب فذلك شيء لا علاقة لي ولا لجيلي به أبداً، أما إذا كان المقصود هو عدم النشر والتعتيم وقفل فرص المشاركات، فتلك قضية ومسألة حاصلة فعلاً لها سياقها وأسبابها وظروفها التي يعيها كل من تابع ويتابع التحولات الثقافية والاجتماعية، وليس هنا مكان عرضها، وفي كل الاحتمالات - كما تلاحظ - لا علاقة لما هو كائن بسياق الهواية ولا بسياق الغواية لا في مصادفاتها العرضية ولا بوشائجها الجدلية. الرصانة تسكنك وتتلبسك... أهي فلسفة أم مذهب تؤمن به؟ - مع إيماني الشديد بأن كثيراً من الصفات الذاتية تأخذ مستواها من النسبية وتختلف من شخص إلى آخر، أستطيع أن أصف ما لديّ بأنه ليس فلسفة ولا مذهباً، وإنما هو شيء من سديم الخلق والتكوين، بمعنى أن «الرصانة» كما تقول، ليس في مقدور أي شخص أن يقعِّدها ويُمنهجها كما يريد ثم يتظاهر بها أو يحولها إلى شعار ومن أي نوع ويعلن من خلالها سلوكاً معيناً، إذا لم تكن من ضمن جيناته وتركيبته الخاصة، وينطبق ذلك على كل الصفات التي يمكن تصنيفها داخل هذا القاموس، أقول ذلك مع تحفظي الواعي جداً على أن الرصانة بمعانيها الوجدانية والسلوكية تسكنني أو تتلبسني، كما تقول. بداياتك كانت تبشّر بمجدد في اللغة والثقافة، لكنك تنازلت بسرعة عن كل شيء؟ - من الصعب أن تصفني قبل قليل بالرصانة ثم تسارع وتصفني بالتنازل الذي لا يمكن أن يكون ثمرة من متطلبات الإصرار، والثبات في وجه التحولات التي لا تليق. غير أني لا ألومك، فكثير من الذين جاءوا بعد مرحلة الثمانينيات في حاجة شديدة إلى الاستقراء والتمحيص والتحليل لكي يغرقوا بين الاستلاب والتغييب والتغطية وبين التوقف والتخلي والتنازل، إذاً، لم يكن هناك تنازل بمعناه السلبي المتخاذل، وإنما كان هناك ردم للمضمار، وتلويث للميادين والفضاءات، وتحجيم للآليات المتاحة، وتضييق للمسافات المشجعة. هل تخشى المواجهة فتلجأ إلى الهروب أو الانسحاب؟ - أبداً، ليست المسألة بهذا الانسلاخ وبهذه البشاعة، فكل الأعمال التي قمت بها وقدمتها كانت تشير إلى ضد ذلك، وسيتذكر ذلك كل من سيقرأ الأعمال والكتب التي سأنشرها مستقبلاً ضمن سيرتى الذاتية والثقافية بعامة، وينبغي أن أشير هنا إلى أن السياق عندما لا يكون في مستوى الطرح والتناول ولا في مستوى اللغة والأداء فإن الصمت أو الإعراض لفترة يكون هو المطلوب ولا علاقة لهذا بتداعيات الخوف والجبن أو الهروب والانسحاب. ما معركتك التي لم تنته؟ وما المعركة التي خسرتها قبل أن تبدأ؟ - هي ليست معارك بقدر ما هي إسهامات ومشاركات إيجابية، غير أنك من خلال ذلك تقول للمحسن أحسنت وتشير للمسيء إلى سوء تصوره وأعماله، وبعامة: يمكنك أن تأخذ كثيراً من مهماتك في الحياة على أنها جبهات وأنت في كل الأحوال لا تستطيع أن تتصور خسارة أو مكسباً في معركة أو جبهة لم تبدأ، الربح والخسارة مترتبان على الفعل، والحركة، وقاموس التكوين الخسارة الكبرى التي عشتها حقاً هي أني لم أكن خلال تجربتي في كل جوانبها في الزمان ولا المكان الصحيح. هل تشعر بأنك جئت في الزمن الخطأ؟ نعم، ووُجدت في المكان الخطأ كذلك، ولم أقل ذلك ادعاء وتباهياً وإدلالاً بالذات، وإنما - ويا للأسى - قاله لي الزمان ذاته والمكان ذاته، ولكن بعد فوات كل شيء، حيث ليس في يدي الآن أي شيء. من اغتال فرحة عصر الثمانينيات بالجديد في كل شيء؟ - اغتالها السياق بكل تداعياتها وبخاصة المناخ غير الصحي الذي قتل الفرح الثقافي بما تعنيه هذه العبارة. هل عاش جيلكم كل الفرص فاستطاع أن يصنع ما يتمنى؟ - نعم، عاش كل التوجهات الفاعلة، لكنه لم يستطع أن يستوطن الفضاء المطلوب لتلك التوجهات والفرص. لماذا المثقف السعودي يستسلم بسرعة؟ - هو لا يستسلم، وإنما يصاب برعب مزدوج مكون من رهاب الخيبة وانعدام الجدوى مما حوله. التحاقك بالإعلام... هل كان سبباً في تيه لك؟ - لو كان سبباً في أي نوع من أنواع «التيه» لكنت أرجو من نفسي مغنماً، ولكنه، كان سبباً في الضمور والتلاشي وتلك هي الكارثة. المشهد الثقافي في الإعلام السعودي... هل تسكنه هوية معينة؟ - هو لم يمتلك أصلاً أدوات التكوين، فكيف يتوقع أن يصل إلى إيجاد الهويات والصوتيمات؟! وزارة الإعلام تعاقب عليها أسماء وكوادر كثيرة... كيف ترى الترمومتر الإبداعي في تلك الأسماء عبر تجربتك معها؟ - كل ما أستطيع أن أسجله هو أن كثيراً من الأسماء وكثيراً من المسميات والبرامج كانت تعمل بالبركة بدليل أن الأسماء تنتهي من دون أن تبني هرماً من الإبداع، وأن البرامج لا تستند إلى مرجعية علمية واعية. أنت شاعر ومبدع ولكن لا يحفل تلفزيوننا بشيء من إبداعك... أين تكمن المشكلة؟ - لعل في الفقرات السابقة ما يشكل تحليلاً تراكمياً للإشكالية غير أني أستطيع أن أذكّر بمسألة المناخ الصحي للعمل بكل ما يتطلبه ويعنيه. كيف ترى العلاقة بين الأجيال في الإعلام السعودي؟ - أعتقد - جازماً - بأنها - بامتياز - علاقة رثائية وما دام السياق بهذا الشكل وبتلك المضامين فستظل الأجيال ترثي بعضها إلى ما الله. لماذا عمر الإعلامي السعودي قصير في إعلامنا؟ - إضافة إلى ما سبق، هو لم يمنح مسوغات البقاء طويلاً، بدءاً من حقوقه الوظيفية التي تمنح في كل مكان في العالم للإعلامي وانتهاء بمناخ العمل الذي تكتنفه كل عوامل الإحباط والتثبيط. هل دخول شركات الإنتاج، أفرغ تلفزيوننا من نجاحات كان يتميز بها؟ - لا، أبداً، وإنما انعدام التخطيط والاستراتيجية العلمية للعمل الإعلامي بتنظيره وتطبيقاته. هل تخاف من تجربة جديدة إعلامية لك خارج أسوار الوزارة؟ - ولِمَ الخوف؟ المهم أن يجد الإعلامي المساحة التي تستوعب ما يريد أن يقدمه. أروقة الصحافة... لماذا لم تتكاثر خطواتك عليها أكثر؟ - أليست جزءاً من التركيبة الإعلامية بجميع إشكالاتها؟ ثم، أليست الأهواء الشخصية والمحسوبيات والعلاقات هي التي تتحكم في منح الإمكانية بعيداً عن التفوق والإضافات الحقيقية. هل تحترم صحافتنا مبدعينا وتمنحهم ما يستحقون؟ - أشك في ذلك، بدليل أن كثيراً من الصحف والمجلات المحلية لا تلتفت، ولا تعنى بدعوتها للمبدعين الذين يكتظ بهم البلد، وتمنح الزوايا والصفحات لأسماء خارجية لا علاقة لها بالفن ولا بالإبداع ولا بالثقافة، والأمثلة والنماذج كثيرة ولا تخفى على أحد، افتح أي مطبوعة، ستصاب بالحزن والغثيان. يقول البعض إن الخطاب الديني أفسد كل مشاريع الحداثة... ما رأيك؟ - لا ليس الخطاب الديني، ولا يمكن لعاقل أن يقول بذلك، لأن الخطاب الديني واحد من صيغ الكشف الفكري، وأحد روافد الإثراء الحضاري، لكن الإشكالية تتمثل في من يقومون بتفسير الخطاب الديني، أو - على الصحيح - بتسطيح الخطاب الديني من دون وعي وإدراك، كما في كثير من الرؤى الأحادية البعيدة عن آفاق العلم والثقافة. يرى البعض أن العلمانية فصل الدين عن الحياة... هل الحداثة فصل الدين عن الفن والأدب؟ - تلك مفهومات غير صحيحة ولا ثقافية، فلا العلمانية في حقيقتها وتنوع المعرفة فيها تفصل الدين عن الحياة، ولا الحداثة الواعية تفصل الدين عن الفن بعامة والأدب بخاصة، وذلك بسبب أن الفكر الحقيقي الراقي لا يمكن أن يشطر الإنسان إلى نصفين، أو أن يحوله إلى مخلوق مزدوج، ولكن الشيء الذي لا نختلف حوله هو أن الفكر الحقيقي الراقي يعمل بعمق على تنقية الإنسان من شوائب الجهل والتردي وتمنحه الصياغة المثلى لفهم ذاته والوجود من حوله، وفي هذه الأثناء تحصل التغيرات الرعناء لكثير من الأسباب والمحصلات والنتائج، وهو ما يؤدي إلى مثل هذه المفهومات القاصرة. لماذا عشاق البيان والمعنى من البسطاء، يلعنون الحداثة والغموض ليل نهار؟ - ذلك لأن المكونات المعرفية والثقافية محدودة وغير قادرة على الاستيعاب والفهم، وقديماً قيل: الإنسان عدو ما جهل، هذا على المستوى السهل، فما بالك بما يتعلق بمجاهل النفس البشرية وأغوارها البعيدة؟ وهو أمر ليس بمستغرب، لكن المخيف هنا هو ميل الإنسان إلى العادي والسهل والمحدود والمسطح، ومع أن هذه الفقرة تحمل كثيراً من التعميم تنبغي الإشارة إلى نسبة الوعي والإدراك، وإلى أن الحديث هنا معني بالغموض المطلوب في عالم الفن والإبداع. التمرد على المألوف شكلاً ومضموناً... ماذا يمنح صاحبه؟ - إذا كان حقيقياً وثقافياً واعياً فسوف يمنح صاحبه التفوق والتفرد والاستثنائية، أما إذا كان لأهداف غير ثقافية ولا إبداعية فهو نوع من التفاهة في السلوك والموقف. أكثر الناس ترديداً لكلمة التراث، هم الحداثيون... ما الذي يستفزهم في هذه الكلمة؟ - أولاً: ليس الحداثيون أكثر المعنيين بترديد كلمة «التراث»، فالسياقات والساحة الثقافية تقول غير ذلك وآخراً: ليس في كلمة «التراث» ما يستفز الحداثي، لأن الحداثي الحقيقي يستند إلى التراث ويقف عليه وأي حداثي لا يحترم التراث أول لا يعنى به إنما هو أجوفُ ممخور من الداخل ولا قيمة له، أو أنه يكذب ويتظاهر بألا صلة له بالتراث، ولذلك لم تكن الأصالة ضد الحداثة ولا الحداثة ضد الأصالة وإنما الحداثة الحقيقية هي تلك التي تقف على أرضية خصبة من التراث والأصالة، والأصالة الحقيقية هي تلك التي ترحب بالجديد وبالإضافة. هل يعشق الحداثي الهدم أكثر من البناء؟ - المشروع الحداثي قائم على الهدم الإيجابي والفوضى الخلاقة وتبعاً لذلك فلا بد من البناء الحقيقي، ومن المستبعد أن يكون هناك سياق أو تكوين حداثي محترم يحترف الهدم لذات الهدم فقط، وليس في قاموسه ما يتعلق بالبناء، لأن ذلك سيؤدي حتماً إلى مهيع من الجنون والانقراض من دون شك. «النقد الثقافي» هدنة موقتة بين الحداثيين والمحافظين... ما رأيك؟ - «النقد الثقافي» إحدى صيغ التطور في آلية التناول لمرحلة ما بعد الحداثة، ولذلك قد يجمع عليه الطرفان، وإذا تذكرنا أن النقد الثقافي في المسائل والمهمات الكتابية التي طرحها الدكتور عبدالله الغذامي في مرحلة ما بعد الحداثة أدركنا أن هذا التناول ليس خاصاً بالحداثيين ولا هو بمقصور على غيرهم، ولا سيما أن الغذامي يمتلك ذلك التوازن والتوسط بين كثير من الفئات الثقافية والأدبية في الساحة المحلية والعربية. يرى البعض أن الحداثيين العرب عجزوا عن الدفاع عن قصيدة النثر، لذا هم لا يُؤتَمنون على شيء... هل تتفق معهم؟ - ليس الأمر بهذه الحدة، أقصد أن تصل النتيجة إلى أنهم لا يؤتمنون على شيء، وما دام الأمر كذلك فإن المعنيين بالنثيرة دافعوا عنها جيداً بعد أن تجاوزوا مرحلة كتابة نص النثيرة وأصدروا كتباً نقدية تنظر إلى هذا النوع من الكتابة، أنا أرى أن النثيرة بخير وأن خطها البياني يتصاعد. هل جَنَتْ عليك الحداثة في شيء ما؟ - أبداً، هذا إذا اتفقنا على أن لكل شاعر أو لكل كاتب حداثته التي يؤمن بها، والحداثة لم تجن علي في كل إشكالاتها وإنما أثرت التجربة بكل جوانبها، وفتحت جوانب إيجابية، ولا سيما في طريقة التناول وتنوع المواقف والقبول بكثير من الصيغ والاحتمالات في التفكير والتعبير.