هي طفرة برامج تحظى بنسبة متابعة كبيرة، وتخلف نقاشات واسعة في الأوساط الشعبية بخاصة، كما لا تترك المثقفين والنخبة خارج دائرة التأثير، فتستنبت سخطهم وتذمرهم من نشر المشاكل في شكل سطحي ومباشر يطغى فيه الميلودرامي والبحث عن الحكي العاطفي المؤثر في القلوب بطريقة صوغه وتقديمه، كصراع ما بين الخير والشر، والمجابهة بين التقاليد الدينية والأخلاق والقانون والمنطقي ضد العشوائي وغير المقبول مجتمعياً. يتعلق الأمر ببرامج مغربية كثيرة، مثل «الخيط الأبيض»، «الوجه الآخر»، «تحقيق»، «أخطر المجرمين»، «54 دقيقة»، «بكل جرأة»، «مختفون»، «أسر وحلول»... هي برامج تثير السؤال وتلفت الانتباه على أكثر من صعيد. والسؤال يتعلق بمدى أهميتها بالنسبة الى المشاهد، وهل تقدم له خدمة مجتمعية، وتساهم في تسليط الضوء على المشاكل، أم أنها فقط تبغي شد الانتباه بقوة، ومنح هذا المشاهد حصته من القصص الواقعية التي تهزه وتمكِّنه من قضاء لحظات من التوتر «الجميل والممتع» على غرار فيلم رعب أو فيلم درامي قوي؟ لا بد من الإشارة إلى أن الإعلام البصري المغربي ظل لعقود منحصراً في ما هو رسمي، ترسم الدولة خطوطه وحدود اشتغاله، بالتالي كان السائد هو مقولة كل شيء على ما يرام، وليس الخبر المهم لديها ما ينطلق من بسطاء الناس، بل ما يفعله المسيرون ويشيدونه. لكن السنوات القليلة الماضية عرفت دخول المجتمع ككل وشرائحه الشعبية خصوصاً، رحابَ الخبر الصحافي والإعلامي، فالصحافة المكتوبة، وعلى رأسها الصحافة المستقلة، والقنوات الإذاعية الخاصة، فتحت الباب على تحقيقات غاية في البوح والاعتراف بالأعطاب الدفينة التي تقضّ مضاجع الأفراد والأسر والطبقات. وبعد تحرير القطاع السمعي البصري، ونزوع الدولة نحو تحرير الإبداع ومنح هامش واسع من الحرية، سنحت الفرصة ليشارك التلفزيون، بما أنه جماهيري ويتجه نحو الجميع، الأمي والمتعلم، في تلقف الموضوع المجتمعي بكل ما يحبل به من قوة جذب وحدود لانهائية للتوظيف. وبالفعل حققت البرامج الحالية، التي تتزايد يوماً بعد يوم، قبولاً واسعاً، وفتحت الأبواب للمجتمع كي يطلع على ذاته ومشاكلها ومعوقاتها، الجمعية والفردية. ويبدو الأمر كحوار واسع مثير خلق ردود فعل متناقضة ما بين من يرفض ويتقزز، ومن يحبذ ويشجع. لكن السؤال الكبير الذي يظل منتصباً، يتعلق بهؤلاء الأشخاص الذين يؤتى بهم، بكامل رغبتهم، إلى البلاتوات أو يتم اللقاء بهم في أماكن سكناهم، كي يتكلموا عن مكنونات قلوبهم، وما يعايشونه من مشاكل يصعب الاعتراف بها للآخر، وبالأحرى التحدث عنها للرأي العام. فهل يملك الأمي أو البدوي أو الإنسان العادي البسيط الذي لا يملك ثقافة حرص ومناعة صحيحة تجاه الإعلام، أن يقول «لا» أحياناً، أو أن يقدم مشكلته أو حكايته بكامل القدرة على التحكم فيها وفي تفاصيلها، والأدهى التحكم في تبعات ما بعد الحديث عنها، بخاصة أمام مقدم برنامج مدرب ومحنك، ويعرف كيف يوجه دفة الحديث، ويعرف كيف يلتقط اللحظة الكبرى الفاصلة التي يرى أنها قفل الكلام والبرنامج؟ إنه السؤال الأساس، فالملاحظ أن جُلَّ الذين يُحكى عنهم في بعض البرامج المذكورة هم من شرائح شعبية كادحة، في الوقت الذي لا يبدو الظهور في التلفاز مسألة جدية جداً، وتتطلب التفكير قبل الإقدام عليها. إعلامنا المرئي لا يزال في طور تشييد حريته وأسس مشروعيته في خدمة العام، ولا يزال بالنسبة الى الكثيرين سلطة لا يستطيع قول كلمة «لا» إزاءها. وإن كانت هذه البرامج تقدم حقاً وفعلاً خدمات في المجال الخبري الخالص، أو في المجال الاستشاري، مما ينفع الناس ويساعدهم على الفهم والإدراك، فإن في القصص الشخصية ما يجب التفكير فيه بروية وإعداده قبلُ، كي يُقدم بصياغة لائقة وغير منفرة، أو قد تؤدي إلى عكس ما تود التوجه إليه كهدف وغاية. في انتظار ذلك، فالبرامج تحقق قدرها من الإثارة القوية في مستوى طرحها على أمل أن تحقق كسباً للمجتمع والناس، حياتياً وفكراً، في مستوى ثان أعمق وأكبر. وتبعاً لذلك، تساهم في خلق إعلام سمعي بصري موجه للمشاهدين من دون أي رقابة قبلية أو وصاية أو تعال أخلاقي يرى المشاكل من الخارج، وليس كنتاج لما قد يعتري الفكر المؤسس للمجتمع وسلوكات الجمهور الواسع من انحرافات.