على بعد خمسة وعشرين كيلومتراً من مدينة أفينيون التاريخية في الجنوب الفرنسي، تقع قرية «بو دو بروفنس» المسجلة من وزارة الثقافة كواحدة من أجمل القرى الفرنسية. وبسبب طبيعتها الخلابة في موقع جغرافي ساحر ومعالمها التاريخية وبيوتها الريفية، يزورها سنوياً أكثر من مليون ونصف مليون شخص بينما سكانها المقيمون فيها طيلة أيام السنة لا يتعدون الخمسمئة شخص. منذ القرن التاسع عشر، توافد على «بو دو بروفانس» الفنانون والكتّاب الذين فتنوا بجمالها، ومن أشهرهم فان غوغ وبيكاسو وجان كوكتو... ولأن القرية تشتهر بصخورها البيضاء والرملية، تقرر في عام 1976 تحويل مقلع شاسع للحجارة مركزاً للفنون، اذ تُعرض على واجهات الجدران المحفورة في الصخر، وبأحدث أساليب الصوت والضوء والتقنيات الرقمية، صور مضيئة شاسعة لأعمال فنية لها حضورها المميز في تاريخ الفنون. يقف وراء هذا المشروع الصحافي والفنان الفرنسي الراحل المتخصص بعالم الصورة ألبير بليسي الذي كان يرى أن هذا المكان الفريد من نوعه يمكنه أن يكون إطاراً لتحقيق مشروعه المتعلق بما كان يسميه «الصورة الكاملة». منذ عام 2012، أطلق على هذا المقلع اسم «مقلع الأنوار» وهو يقيم كل عام تظاهرات فنية تلاقي نجاحاً كبيراً وكان أولها معرض بعنوان «غوغان، فان غوغ، فنانا الألوان» وحضر العرض المخصص له أكثر من مئتين وخمسين ألف شخص. أما المعرض الذي أقيم عام 2016 تحت عنوان «الفنان شاغال، أحلام ليلة صيف» فقد حضره أكثر من نصف مليون زائر. أما هذا العام فقد افتتح أخيراً معرض جديد بعنوان «بيكاسو والمعلمون الإسبان». هذا المعرض يروي على الجدران، معتمداً على التقنيات الرقمية والموسيقى، سيرة الفنون الإسبانية الحديثة منذ غويا وحتى بيكاسو. إنها دعوة للسفر يتعرف خلالها المشاهد الى كبار معلمي الفن الإسباني واكثرهم حضوراً في المشهد العالمي وأشهرهم بالطبع بيكاسو الذي نشاهد له في العرض المتحرك الأعمال التي كرسته رائداً مجدداً لمرحلة تجاوزت النصف قرن ومنها لوحة «آنسات أفينيون» التي مهدت للتكعيبية ولوحة «غيرنيكا» التي سجل فيها مآسي الحروب وويلاتها. هناك أيضاً اللوحات التي رسمها أثناء إقامته في الجنوب الفرنسي وعكست تعلقه بالبيئة المتوسطية وما منحته من لحظات هناء وسعادة. وتحضر نساء بيكاسو ومنهن زوجته جاكلين بقوة في هذا الاستعراض الفني وهي تعكس مدى استيحاء بيكاسو من المرأة بصورة عامة والتي رسمها في مختلف الأوضاع والأعمار. تنتهي زيارة هذا العرض بمشاهدة فيلم عن الكاتب الفرنسي جان كوكتو الذي كان من عشّاق هذا المكان الساحر حتى أنه أخرج هناك فيلمه الشهير «وصيّة أورفيوس» عام 1959. أكثر ما يلفت في هذا المعرض الذي صيغ بأدوات وطرق حديثة غير مألوفة هو هذا التزاوج المثير بين الأعمال الفنية لكبار الفنانين من جهة، والطبيعة الخلابة التي تحوّلت ديكوراً طبيعياً يحتضن تلك الأعمال ويقدّمها للزوّار بأسلوب جديد ومن زاوية جديدة، لدرجة تبدو معها تلك الأعمال الفنية وكأنها إبنة ذاك المكان وسحره.