في فضاء تقليدي يسدل ظلاله على مختلف الجهات، وفي معمعة عنف سافر تمارسه السلطة وآخر مقنع أو موارب تمارسه المعارضة يخوض شبان اليمن «حرباً بيضاء» في مسعى لكسر قيود الواقع والانعتاق من ثقافته. وإذ بدأت الثورة الشبابية سلمية، ثم دخلت نفق العنف أو دفعت اليه، يبقى أن اللافت في «ثورات الربيع العربي» التي سعى شبان اليمن الى محاكاتها، أنها ترسم بصمتها يومياً في وعي الأجيال الشابة على صورة أعمال ومبادرات غير تقليدية. وتعتبر تلك المبادرات بحد ذاتها إنجازاً كبيراً لأنها قد تشق أبواب الحداثة في بلد يغلب عليه الطابع القبلي وثقافة حمل السلاح. وحولت تلك الاندفاعات القوية مؤسسات العمل الأهلي والإنساني التقليدية الى مجرد «دكاكين حزبية وعشائرية» وفق ما يصفها البعض. حول طاولة في كافتيريا مركز تجاري في مدينة عدن الجنوبية، تجلس مجموعة من 4 فتيات وشاب يشربون العصائر ويناقشون مواضيع تتعلق بأجندة نشاطهم العام. تطلق المجموعة على نفسها اسم «ناشطون في المجال الإنساني» وهي إحدى الانبثاقات الشبابية الجديدة التي بدأت تبرز على ساحة العمل المجتمعي التطوعي توازياً مع الأحداث التي يشهدها البلد. ففي وقت يكتنف الغموض النتائج التي يمكن أن تسفر عنها حركة الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام يلاحظ حالياً تحول في الوعي السياسي يمكن رصده لدى الجيل الناشئ. ربما هو تحول انطوى على بوادر ثورة غير منظورة قياساً بما كانت عليه أحوال الكثير من الشباب اليمني ومقارنة بالمسار العنيف الذي دخلته ثورته السلمية بعد مرور 100 يوم على اندلاعها، لكنه يبقى وعياً مختلفاً عما سبقه من تاريخ متجذّر في طرق التغيير وسبله. ومنذ اندلاع الثورة في اليمن وتركز عمل المنظمات الإنسانية والحقوقية في العاصمة صنعاء أطلق بعض الشبان في المحافظات مثل عدن حملات لمناصرة المعتقلين ومنها مثلاً الجماعة التي تقودها الناشطة سهير يحيى وتطلق على نفسها اسم «مبادرة منسقية معتقلي عدن». وانطلقت الفكرة من اعتقال السلطات مجموعة أساتذة جامعيين في عدن على خلفية تأييدهم الحراك الجنوبي والثورة. أما مجموعة «ناشطون في المجال الإنساني» التي لا تزال غالبية أفرادها طلاباً في الجامعة، فيتركز عملها على مساعدة ضحايا العنف الذي رافق حركة الاحتجاجات الشعبية المستمرة منذ شباط (فبراير) الماضي. وكانت الفكرة انبثقت من الأحداث العنيفة التي شهدتها ساحة المنصورة في محافظة عدن، وتمكنت المجموعة حتى الآن من تقديم العون لما يزيد عن 20 جريحاً أجريت لبعضهم عمليات جراحية في بلدان عربية مثل الأردن ومصر. ويعتمد هؤلاء الناشطون في عملهم على جمع التبرعات من أفراد ومؤسسات والتنسيق مع جهات وأفراد متطوعين ومتبرعين. وفي الفترة الأخيرة نظم «ناشطون في المجال الإنساني» سوقين خيريين ذهب ريعهما لمصلحة الجرحى وبعض أهالي شهداء الاحتجاجات وعدد من الأسر النازحة من محافظة أبين. والمشجع في الأمر أن المبادرات التطوعية المستقلة لا تقتصر على مجال معين بل تشمل ميادين مختلفة منها مثلاً ما قام به شبان تعز أخيراً من حملات تنظيف للأحياء فأزالوا أكوام القمامة التي تراكمت بسبب نهب عناصر قبلية مسلحة سيارات النظافة. وفي وقت صار واضحاً أن إمساك المعارضة والسلطة بعصا الأحداث ومجرياتها ما جعل مفاصل الحركة محكومة بذهنية أبوية ومناطقية وقبلية امتدت جذورها حتى إلى داخل مكونات الثورة الشبابية، وجد البعض في هذه المبادرات الشبابية، بعض عزاء ومبعث أمل في وجود دينامية مدنية تتجاوز حال الإعاقة التي باتت عليها ساحات الاحتجاج. وكان العنف طغى على مشهد الثورة الشبابية السلمية التي حاولت تكرار ثورتي تونس ومصر، ولكن بدلاً من صورة النضال السلمي حلت صورة حرب الشوارع بين الجيش ورجال القبائل كما حدث في صنعاء وتعز وحادثة استهداف الرئيس علي عبدالله صالح. أما ما بقي من ساحات الاحتجاج فبين فكي كماشة لأنه بات هدفاً لعنف مزدوج: عنف السلطة من جهة وعنف المعارضة ممثلة بالفرقة الأولى المدرعة التي تزايدت الشكاوى من أساليبها العنيفة ضد الشباب. وكان آخر تلك الممارسات التي أثارت ردود فعل مشككة، استخدام عناصر أسلوب القوة لفض اعتصام نفذه شباب ساحة التغيير أمام منزل نائب رئيس الجمهورية في صنعاء. والحاصل أن دلالة تحول معنى الثورة من السلم الى الحرب هي من القتامة التي لا يمكن أن تخفف من حدتها سوى مثل هذه الهبات الإنسانية الشبابية التي صارت على قلتها تتحرك بمعزل عن خيوط «اللعبة القذرة» للأحزاب اليمنية سواء كانت في الحكم أم في المعارضة وفق ما يقول سامح (23 سنة) المواظب على التظاهر منذ اندلاع الثورة.