محاولات مستميتة للتمسّك بتلابيب العادات والتقاليد، لا سيما تلك التي تضمن للأسرة مكانة اجتماعية ونظرة قوامها الاحترام والتبجيل. الزيارة الأولى كثيراً ما تكون لجس النبض وقياس الضغط مع الاطلاع على الحالة العامة لمعرفة نقاط القوة والضعف، استعداداً لجولات المفاوضات التالية. وفي حال كانت المسألة نابعة من الصالونات وترتكز على علاقات مراكز القوى، عادة تكون المفاوضات أوقع وأسرع ومن دون حساسيات عاطفية أو حسابات غرامية. أما لو كان الأصل في القصة قصة حب عميقة هزّت قلوب ملايين، هنا تبدأ حسابات من نوع خاص حيث تغليب لرغبات العشاق وترجيح لكفة «الحب يصنع المعجزات»، حتى لو كان الأهل على يقين بأن الزيجة إلى زوال. زوال القواعد الصارمة والقيود الراسخة التي كانت تحدد الزيجات وتحكم وتتحكّم بإبرامها في مصر بدأ قبل سنوات. وأغلب الظن أنه وصل أوجه هذه الآونة، وذلك في ضوء المصاعب الاقتصادية المتواترة والمؤثرة سلباً على مختلف الفئات والطبقات. وفي كل مرة تنطلق فيها «زغرودة» ابتهاجاً بإبرام زيجة في مسجد أو كنيسة، فوق سطح بيت في منطقة شعبية أو في فندق خمس نجوم، يبتهج المارة ويتساءلون فيما بينهم: كيف أبرموا الزيجة في هذه الظروف القاسية؟ ولا تقف الظروف القاسية التي يشكو منها الجميع حائلاً أمام تقديس المصريين لفكرة الزواج. صحيح أن نسب الطلاق مرتفعة، وعدد المشكلات المشتعلة في البيوت المغلقة لا يُعد أو يحصى، لكن يظل الزواج هدفاً يجب إحرازه حتى لو ثبت بعد حين أنه نجم عن تسلل أو عدم تخطّي خط مرماه. ويظل الزواج هدفاً في حد ذاته. وتشير أحدث الإحصاءات المصرية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى أن نسبة المتزوّجين في الفئة العمرية بين 18 و29 سنة بلغت 62،6 في المئة من الإجمالي العام، ونسبة المتزوجات من الفئة العمرية ذاتها 83،6 في المئة، وهو ما يعني أن منظومة الزواج لا تزال حية ترزق بين الشباب والشابات. مفاوضات أهل الشباب والشابات المقبلين على الزواج لم تعد تخضع للعادات والتقاليد وما جرى عليه العرف فقط، بل تدخّلت عوامل أغلبها اقتصادي بحت لتصبح حاكمة. فبعد عقود طويلة من تكفّل العريس بدفع مهر وشراء شبكة وشقة زوجية ومستلزمات منزلية بعينها، وتكفّل العروس بشراء النسبة الأكثر من الأثاث، تحوّلت المنظومة إلى شراكة من نوع مختلف. أسرة مي (طبيبة، 26 سنة) اشترت أرضاً في «التجمّع» (منطقة سكنية حديثة على أطراف شرق القاهرة) وشيّدت منزلاً من ثلاث شقق، واحدة للوالدة والوالد، والثانية للابن والثالثة للابنة، ما يعني أن العروس قد تكفّلت بالشقة. مفاوضات الزواج في حالة مي صبت في خانة تكفّل الزوج بفرش الشقة من الألف إلى الياء، حيث قيمة الشقة تفوق قيمة الأثاث بمراحل. وهنا ضغطت أسرة العروس على العريس كي تعوّض الفارق في قيمة المهر (150 ألف جنيه) والشبكة (مئة ألف جنيه). وتختلف قيمة المهر والشبكة في الزيجات المصرية باختلاف الطبقات الاقتصادية والاجتماعية اختلافاً شديداً. سمية (بائعة، 20 سنة) تسكن مع أسرتها في منطقة شعبية. أسرة العريس التي تعيش في المنطقة ذاتها عرضت أن يسكن العروسان معهما في غرفتين وحمام تم بناؤهما على سطح البيت، على أن يشتركا في شراء أثاث غرفة النوم والصالون بالتقسيط. أما المهر فحدد ب5 آلاف جنيه يدفع العريس نصفها قبل إتمام الزيجة، على أن يوقع على إيصال أمانة بالنصف الباقي يظل ديناً عليه للعروس. وبالنسبة للشبكة فقد اشترى العريس خاتماً وسواراً ذهبيين، بعدما باع شبكة والدته إثر ضغط هائل بذلته أسرة العروس. جانب من هذا الضغط المادي، الذي لا يُعد في أي حال ضماناً لنجاح الزيجة، يعود إلى رغبة عارمة في الحفاظ على الوجاهة الاجتماعية. إذ يظل المصريون ينظرون إلى عملية إبرام الزيجة باعتبارها دلالة على المكانة ودليلاً على «قيمة» العروس. وكلما كان الاحتفال باهظ الكلفة (كل وفق فئته الاجتماعية) كلما كان ذلك عاملاً من عوامل الفخر، وداعياً من دواعي الاعتداد بالذات والأسرة. ولا تزال الأسرة المصرية تعتبر عوامل الزواج الرئيسة، إضافة إلى توافق العروسين وتوافر قدر من الود سواء كان حباً وغراماً أو حداً أدنى من القبول، هي: الشبكة والمهر وضمانات ما بعد الطلاق في حال حدوثه والشقة والأثاث وحفلة الزفاف، التي تشكّل ضغطاً مادياً هائلاً لا ينجو منه إلا نابذي العادات ورافضي التقاليد. هؤلاء يتراوحون بين الطبقات المخملية المتمرّدة على الأعراف والتي تفضّل استخدام الأموال الطائلة التي تنفق على حفلات الزفاف (وقد تتجاوز مليون جنيه مصري) في أوجه أخرى، والطبقات الكادحة التي تجد نفسها مضطرة للتمرّد نظراً لضيق ذات الجيب. عمرو وريم (26 سنة) قررا الاكتفاء بحفلة بسيطة في فيلا أسرة العريس جمعت العائلتين والأصدقاء، ثم سافرا إلى الشرق الأقصى بعد ما سددا كلفة الرحلة مما وفّراه. كذلك فعل طارق (27 سنة) وسندس (23 سنة) إذ عقدا قرانهما في منزل العروس، ثم استقلا مركباً شراعياً في نهر النيل مع عشرة أفراد من أسرتيهما. وعلى رغم الصعوبات الاقتصادية لا يزال المصريون مقبلين على الزواج. بعضهم يستدين ويلجأ إلى التقسيط المريح وغير المريح، وبعضهم الآخر ينتهج نهج التمرّد على التقاليد. وتستمر الزغاريد في التصاعد تارة من فوق سطح بيت بسيط، وأخرى من داخل قاعة فندق فخم، وثالثة من مركب شراعي في النيل أو قاعة السفر في مطار القاهرة الدولي. ولولا الضغوط وتفاقم الأسعار وتوحّش الغلاء، لكان التمسّك بتلابيب العادات أقوى والتقاليد أعتى.