لا أستطيع أن أكتم إعجابي بقدرة «العقيد» المدهشة على البقاء والمقاومة. فشعبه ضده. والعرب والأفارقة في حالة تخلٍّ عنه، والعالم يقف ضده. ومع ذلك فهو مصرّ على البقاء في الموقع الذي أمضى فيه أكثر من أربعة عقود. وذلك ضد طبيعة الأشياء. فكل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة الحدباء محمولُ وإن لم يكن على «آلة الحدباء» فعلى «آلة التقاعد» والاعتزال كما حدث لزميليه في الغرب وفي الشرق من «جماهيريته» العظمى ... أعني في تونس ومصر. والآن حانت ساعة المغادرة. هكذا هو التوقع. وقد تحمل الأيام المقبلة مفاجآت ... والله أعلم. وأذكر أني قرأت رأي كاتبنا الراحل غازي القصيبي، رحمه الله، عن معمر القذافي في كتاب من كتبه الأخيرة وهو كتاب (الوزير المرافق). فقد عجّل غازي قبل أن يعاجله الموت إلى طبع ما تبقى لديه من كتب – وهذه حسنة تسجل له في تلك الأيام العصيبة – وكان ذلك الكتاب من أقيم كتبه، فقد تحدث عن نيكسون وكارتر وأنديرا غاندي وبورقيبة والمستشارين الألمانيين هلموت شميت وهلموت كول و «الأخ العقيد» وعيدي أمين وملكة بريطانيا ووزرائها المهمين والملك الحسن الثاني في قمة فاس. وقد أستوقفني في حينه رأيه في «العقيد» لمغايرته ما هو شائع عنه. يقول غازي القصيبي عن معمر القذافي: «قال عنه أعداؤه كل ما يمكن أن يقال في إنسان. وقال فيهم ما هو أسوأ. قالوا عنه: صبي ليبيا، مجنون ليبيا، مراهق ليبيا، عقدة ليبيا، الكافر، الملحد، وهاجم بدوره الدنيا كلها تقريباً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. كنت أتطلع إلى لقاء هذا الرجل، أود أن أراقبه عن كثب وأحاوره إن أمكن. هذا الرجل الذي ظل يقود ليبيا طيلة عقد عاصف من السنين. هذا الرجل الذي يعتقد – جازماً – أن نظريته ستحطم الشيوعية والرأسمالية. هذا الرجل الذي جمع أفكاراً من هنا وهناك، وتصور أنه نجح لأول مرة في التاريخ، في إقامة دولة «جماهيرية» تحكمها الجماهير نفسها مباشرة وعن طريق مؤتمراتها ولجانها. هذا الرجل الذي رفض أن يرقّي نفسه كما يفعل بقية الانقلابيين العرب وظل «مجرد عقيد». كان غازي القصيبي مرافقاً للملك خالد بن عبدالعزيز، طيب الله ثراه، ضمن وفد سعودي رفيع قام بزيارة ليبيا عام 1980 بدعوة من القذافي. وبعد أن عرض لمناقشاته مع أعضاء الوفد السعودي عن السنة النبوية والاشتراكية والهجرة، قال غازي عنه: «إيمان العقيد بكتابه الأخضر ظاهرة تستدر العجب والرثاء معاً». «قال مرة: سمعت أن الناس في المملكة العربية السعودية يتخاطفون الكتاب الأخضر. عشرات الآلاف من الناس. وأكثر من يطلبه الفتيات». «ولم أقل شيئاً ... ولم يقل أحد ممن سمع الملاحظة شيئاً. ماذا سيكون شعور العقيد لو أدرك أن عدد الذين قرأوا الكتاب الأخضر في المملكة لا يتجاوز الخمسين أو المئة في أفضل الأحوال؟». ولكن غازي كمراقب موضوعي يقرر «الحقيقة» التالية في شأن «موضوعه»: ثمة حقيقة أكيدة اتضحت لي خلال النقاش، كل الأفكار التي يرددها العقيد تنبع من العقيد في شكلها وموضوعها. لا أعتقد أن هناك صحة لما يتردد أحياناً أن العقيد يردد كالببغاء ما يُعدّ له من نظريات و «مقولات». لا شك في أن للعقيد عقلاً لا يخلو من أصالة وتحرر ومغامرة ولو أتيح لهذا العقل قدر أكبر من الثقافة والانضباط لتغير تاريخ الثورة الليبية وربما تاريخ العالم العربي». «طيلة الزيارة كنت أفكر: هذا الرجل الغريب ما سره؟ ما الذي يجعله يتحرك، كما يقول التعبير الإنكليزي؟». «من مراقبتي الدائمة له، من حرصي على سماع كل كلمة تلفّظ بها، من استقرائي لتصرفاته وتصرفات من حوله، أيقنت أن هناك مفتاحاً أساسياً للدخول إلى شخصيته بكل تعقيداتها ومتناقضاتها وأبعادها: الطموح. الطموح المحترق. الطموح الأعمى. الطموح غير المحدود. العقيد يعادي بدافع من طموحه، ويصادق بدافع من طموحه وينفصل بدافع من طموحه، يتآمر ويدبر القلاقل والاضطرابات بدافع من طموحه، يتناقض مع نفسه بدافع من طموحه. ما هو طموح العقيد؟ ببساطة يريد أن يكون زعيم العالم الثالث كله، لا زعيمه السياسي فحسب، بل معلمه الروحي والفكري. هذا سبب حرصه على التدخل في أوغندا، وفي تشاد، وفي ارلندا، وفي شؤون الهنود الحمر». «الجماهيرية» و «الكتاب الأخضر» و «النظرية الثالثة» أفكار ولدت على مهد الطموح. كل تصريحات العقيد السياسية من مواليد الطموح. كل اجتهادات العقيد الإسلامية من مواليد الطموح». «أما أولئك الذين يعتقدون أنه «مجنون» أو «مراهق» أو «مقعد» نفسياً فيتجاهلون حقيقة لا يحتاج المرء إلى أكثر من دقائق في الحوار معه لكي يكتشفها. وهو أنه يتحدث مع رجل حاد الذكاء، لا يبدو عليه أدنى دليل على الاختلال العقلي أو الاضطراب النفسي». «على أنه يبقى هناك سؤال مهم: ألا يعتبر الطموح، عندما يصل إلى هذا الحد من العنف نوعاً من أنواع الجنون؟». و... «أخطر» أنواع الجنون؟ ويختم غازي انطباعاته عن «العقيد» بالخاطرة التالية: «عندما تحركت الطائرة، نظرت إلى العقيد من النافذة. وكان يقف ببذلته البيضاء شامخاً معتداً بنفسه، وبثورته، وبنظريته. شعرت بشيء يشبه الشفقة. ربما لأنني أحسست أنه كان بإمكان العقيد أن يكون رجلاً عظيماً» – (غازي القصيبي، الوزير المرافق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2010: ص 115 – 138). واليوم ... ربما غادر العقيد ... إذا غادر (فهو يؤكد أنه باق في ليبيا حياً أو ميتاً) ... هل سيقف الوقفة ذاتها، كما وقف مودعاً ضيوفه؟ ولا بد من الإشارة أن كاتبنا الراحل قد أورد الكثير، بأسلوبه السهل الممتنع، عن «شطحات» الأخ العقيد. وقراءة هذا المقال لا تغني عن قراءة النص الأصلي. * كاتب من البحرين