«إلى الثورة... إلى التطهير... إلى الأمام... إلى الأمام»، هذه كلمات الزعيم الليبي معمر القذافي في أول خطاباته بعد انتفاضة الشعب عليه، ولكن المتلقي لخطاب العقيد لا يستطيع أن يفك رموز عباراته الغامضة، من ذا يثور على من؟ ومما التطهير؟ من ثورة الشعب، أم من قمع الزعيم لثورة الشعب؟ ومن ذا الذي يسير إلى الأمام، الشعب أم الزعيم؟ لاشك أن الشعب هو الذي يسير إلى الأمام، بينما الزعيم يتهاوى إلى الخلف من منطلق سيكولوجية شخصيته القائمة على طموحاته القافزة على طموح الشعب المتعطش للحرية، والتوازن المعيشي في بلد ثري بالنفط فقير بالاشتراكية، ومطوق بزيادة أعداد الوافدين من أفريقيا والبلدان الأخرى، للعمل والاستفادة من موارد أعمالهم من دون الليبيين، وهذه مشكلة تعاني منها البلدان النفطية بإعطاء الامتيازات للآخرين من دون أبناء البلد الأصل، ما يجعل المواطن غريباً في بلده محروماً من خيرها، أضف إلى ذلك النظام الاشتراكي الذي زاد من فقر ليبيا بالجماهيرية المزيفة، والشعارات العنترية المستهلكة بفضل الزعيم، حتى أصبحت ليبيا منعزلة عن العالمين العربي والغربي، ولولا أن الغرب أراد الحفاظ على مصالحه في ليبيا فربما كان القذافي في عداد مجرمي الحرب منذ حادثة (لوكربي) الشهيرة. إنك لا تستطيع أن تتنبأ بنهاية هذا الرجل الذي سيقتله طموحه في التمسك بالسلطة على حساب شعبه وإهدار دمائهم وقتلهم، فهم «الجرذان» الذين جحدوا فضله، كما يقول، متناسياً أن هذا الشعب هو الذي سيبقى بينما القيادة والزعامة تنتهي وإن طال أمدها، إلا أن القذافي لا ينظر إلى هذه النظرية لأنها تتعارض مع مبادئه الثورية المنبثقة من شخصه وقدراته القيادية. شعب يموت بيده، وبرصاص قواته المسلحة، والمرتزقة، وهو يقول في خطابه الثاني أيها الشباب افرحوا، وارقصوا، والعبوا سنهزم الإرهاب، وينسى أنه هو مصدر الإرهاب، لقد نجح «الدكتور غازي القصيبي»، رحمه الله، في قراءة شخصية العقيد وتحليلها في كتابه «الوزير المرافق»، لدرجة التنبؤ بسقوطه، فيقول: «من مراقبتي الدائمة له، من حرصي على سماع كل كلمة تلفظ بها، من استقرائي لتصرفاته وتصرفات من حوله أيقنت أن هناك مفتاحاً أساسياً للدخول إلى شخصيته بكل تعقيداتها ومتناقضاتها وأبعادها. الطموح، الطموح المحترق، الطموح الأعمى، الطموح غير المحدود. العقيد يعادي بدافع من طموحه، ويصادق بدافع من طموحه، يتّحد بدافع من طموحه، وينفصل بسبب طموحه، يتآمر ويدبر القلاقل والاضطرابات بدافع من طموحه، يتناقض مع نفسه بدافع من طموحه، ما طموح العقيد؟ ببساطة يريد أن يكون زعيم العالم الثالث كله، لا زعيمه السياسي فحسب بل معلمه الروحي والفكري، هذا سبب حرصه على التدخل في أوغندا، وفي تشاد، وفي أيرلندا، وفي شؤون الهنود الحمر. (الجماهيرية) و(الكتاب الأخضر) و(النظريات الثالثة) أفكار ولدت على مهد الطموح، كل اجتهادات العقيد الإسلامية من مواليد الطموح. ويقول: أغرب ما لاحظته في زيارة ليبيا هو افتقار العقيد إلى الشعبية بين الجماهير. المفروض في زعيم ثوري شاب مثله أن يثير الكثير من الحماسة ولو بين فئات معينة من الشعب. إلا أنني لم أرَ ما يدل على ذلك. في كل مكان نذهب إليه كنا نرى مجموعة المطار: الشعارات نفسها والوجوه نفسها. قطعنا في صحبة العقيد مئات الكيلومترات ولم نجد أي جموع أو جماهير. وأخيراً يتساءل «د. القصيبي» قائلاً عن شخصية القذافي: ألا يعتبر الطموح عندما يصل هذا العنف نوعاً من أنواع الجنون؟ بل ألا يعتبر الطموح عندما يصل هذا الحد من العنف من أخطر أنواع الجنون؟ [email protected]