رغم سيطرة التفاعلات الصراعية على العلاقات الكورية- الكورية، والكورية (الشمالية)- الأميركية بخاصة خلال النصف الثاني من العام 2017، أخذت التفاعلات الكورية- الكورية مع بداية العام 2018 اتجاهاً تعاونياً وانفتاحياً واضحاً. واتسم الانتقال من النمط الصراعي إلى النمط التعاوني بالتحول شبه المفاجئ، وعدم ارتباطه بحدوث تغير نوعي في موقف بيونغيانغ من برامجها النووية والصاروخية، الأمر الذي يعني وجود قرار على مستويات عليا داخل الكوريتين بمراجعة أدوات إدارة الصراع، وعلى نحو يدعو إلى البحث في الأسباب التي دعت إلى حدوث هذه الانفراجة. التحول في مسار العلاقات الكورية- الكورية بدأ مع إعلان الزعيم الشمالي كيم جونغ أون في بداية العام الجاري إرسال وفد إلى سيول للتباحث حول مشاركة بلاده في دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية، تبع ذلك إعلان سيول في اليوم التالي مباشرة الموافقة على إجراء هذه المباحثات، والتي عُقدت في التاسع من كانون الثاني (يناير) في قرية حدودية، وتم خلالها الاتفاق على استئناف العمل بالخط الساخن العسكري (كان تم إغلاقه في أوائل 2016)، وإعلان بيونغيانغ الموافقة على المشاركة في دورة الألعاب، وصولًا إلى زيارة وفد سياسي رفيع المستوى لسيول. وفي خطوة شديدة الأهمية؛ وجّه رئيس ذلك الوفد الدعوة للرئيس الجنوبي لعقد قمة في بيونغيانغ، وتبعت ذلك خطوة أخرى رمزية لا تقل أهمية تمثلت في مشاركة الفريقين الكوريين في مراسم افتتاح الدورة تحت علم كوريا الموحدة. وفي المقابل، ورغم إعلان الرئيسين ترامب ومون جاي- إن في الرابع من كانون الثاني (يناير) تأجيل التدريبات العسكرية السنوية المشتركة حتى انتهاء دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية، في محاولة لتوفير أجواء مناسبة لتهدئة الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية، سرعان ما عادت التفاعلات بين واشنطن وبيونغيانغ لتأخذ نمطاً صراعياً، كان أبرز مؤشراته عقد الولاياتالمتحدة -بالتنسيق مع كندا- مؤتمراً على مستوى وزراء الخارجية في فانكوفر (16 يناير)، بمشاركة 20 دولة، من دون توجيه الدعوة إلى روسيا والصين، أكد خلاله وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون رفض بلاده المقترح الصيني- الروسي «التجميد المزدوج» (تجميد بيونغيانغ للتجارب النووية والصاروخية بالتزامن مع تجميد واشنطن للتدريبات العسكرية في المنطقة، تبدأ بعدها المفاوضات). وأعاد تيلرسون التأكيد في المقابل على ضرورة إعلان بيونغيانغ التزامها نزع السلاح النووي كشرط ضروري قبل بدء أي مباحثات معها. وفي الثامن من شباط (فبراير)، أجرت كوريا الشمالية عرضاً عسكرياً، تضمن عرضاً لصواريخ باليستية قصيرة المدى، تعمل بالوقود الصلب، وتصميمات لصواريخ باليستية بعيدة المدى. وفي السياق ذاته، تم إلغاء اللقاء المخطط بين كيم يو جونغ ونائب الرئيس الأميركي مايك بينس، على هامش دورة الألعاب الأوليمبية في سيول. وفي خطوة أكثر تصعيداً، أقرت الولاياتالمتحدة في 23 شباط (فبراير) حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية والمالية على كوريا الشمالية. هكذا، أصبحنا إزاء نمطين متوازيين ومتناقضين في الوقت ذاته من التفاعلات، الأول، هو اتجاه انفتاحي على مستوى العلاقات الكورية- الكورية، والثاني هو اتجاه تصعيدي على مستوى علاقات واشنطن وبيونغيانغ. بدايةً، يمكن القول إن خلق هذين المسارين المتوازيين يمثل في حد ذاته نجاحاً للديبلوماسية الكورية الشمالية. فقد نجحت بيونغيانغ، من خلال إيجاد مساحة للتفاعلات التعاونية المكثفة على المستويات الرياضية والفنية والسياسية، في تحقيق هدفين رئيسين. الهدف الأول، هو توسيع الفجوة بين الولاياتالمتحدة وحليفتها سيول، ليس في ما يتعلق بحق كوريا الشمالية في امتلاك قدرات نووية وصاروخية، أو ما إذا كانت هذه القدرات تمثل تهديداً للاستقرار الإقليمي والأمن القومي الأميركي من عدمه، فهذه نقاط ستظل موضوع توافق بين الجانبين، ولكن على ما يبدو سيتطور اختلاف بين الجانبين حول طريقة إدارة الصراع مع كوريا الشمالية. جوهر التعاطي الإيجابي لكوريا الجنوبية مع جارتها الشمالية أنه يفسح الطريق أمام إعادة الاعتبار لسياسة الحوافز، بخاصة في ظل عدم فعالية آليتي العقوبات والتدريبات والمناورات العسكرية في المنطقة، والتي لم تؤد إلا إلى مزيد من التشدد من جانب بيونغيانغ، وتعميق قناعته بأن الهدف النهائي لهذه الإجراءات هو غزو كوريا الشمالية على نحو ما حدث في الحالة العراقية في العام 2003. ويشار هنا إلى أن سياسة الحوافز مع كوريا الشمالية ليست جديدة على الديبلوماسية الكورية الجنوبية، فقد دشنها الرئيس السابق كيم داي جونغ عقب وصوله إلى السلطة في العام 1998، وجرى تطبيقها حتى العام، وعرفت بسياسة «الشمس المشرقة». ورغم الانتقادات التي جرى توجيهها لهذه السياسة عقب إجراء كوريا الشمالية لتجربتها النووية الأولى في تشرين الأول (أكتوبر) 2006، إلا أن تفسيراً موضوعياً لقرار الجزء الشمالي تسريع برامجه النووية والصاروخية يقتضي إدخال متغيرات أخرى لا تتعلق بسياسة «الشمس المشرقة»، بمقدار ما تتعلق بمتغيرات أخرى، أهمها تصنيف كوريا الشمالية في بداية 2002 ضمن دول «محور الشر»، ونقل إدارة بوش الابن السياسة الأميركية تجاه كوريا الشمالية من «حظر الانتشار النووي» إلى «الحرب على الإرهاب». وهو الأمر الذي طوّر قناعة بيونغيانغ أنها ستكون المحطة الثالثة في الحرب على الإرهاب بعد أفغانستان والعراق، ما أدى إلى اتخاذ قرار استراتيجي بتسريع امتلاك السلاح النووي. الهدف الثاني، الذي سعت بيونغيانغ إلى تحقيقه من خلال هذه السياسة الانفتاحية هو توصيل رسالة لجارتها الجنوبية، أولاً، ولبقية القوى الإقليمية ثانياً، أن كوريا الشمالية يمكن أن تكون دولة نووية، وذات قدرات صاروخية، ولكن في الوقت ذاته «دولة طبيعية» لا تمثل تهديداً لجيرانها أو للنظام الإقليمي. كما جاء قبولها المشاركة في دورة الألعاب الأوليمبية مع جارتها الجنوبية، والمشاركة في مراسم الافتتاح تحت علم كوريا الموحدة، ليمثل إشارة واضحة لقبولها بفكرة الوحدة ولكن في إطار سلمي وليس في إطار مشروع مفروض بالقوة العسكرية من الخارج. في هذا الإطار، يمكن أن نفهم استياء بيونغيانغ من محاولة وفد سيول إقحام قضية السلاح النووي على المحادثات الثنائية التي عقدت في التاسع من كانون الثاني (يناير) الماضي في قرية حدودية. بمعنى آخر، كانت الرسالة الكورية الشمالية واضحة بأن مسألة القدرات النووية الكورية غير مطروحة للنقاش، وأنه يمكن تحقيق انفراجه في العلاقات بين الكوريتين بمعزل عن هذه القضية. ويبقى أخيراً تأكيد أنه ليس ضرورياً أن تنجح بيونغيانغ في عزل موقف سيول عن الولاياتالمتحدة في شكل كامل، فلا زالت هناك علاقات دفاعية واقتصادية قوية بين البلدين. أضف إلى ذلك أن التهديد الكوري الشمالي لم يعد إقليمياً كاملاً، فقد أصبح تهديداً مهماً للأمن القومي الأميركي ذاته، على خلفية التطور المهم الذي طاول القدرات الصاروخية الكورية بعيدة المدى. كذلك، ليس متوقعاً أن تنجح سياسة الحوافز من جانب سيول -حالة العودة إلى هذه السياسة بالفعل- في إقناع جارتها الشمالية بالتنازل عن برامجها ومنشآتها النووية، فالقرار الشمالي بهذا الشأن لم يعد يتسم بالمرونة. وإزاء هذه التعقيدات، قد يصبح السيناريو العملي هو إعادة تعريف الأطراف لأهدافها، والنزول بسقف الطموحات من تفكيك البرامج والمنشآت النووية الكورية الشمالية، إلى دمج هذا البلد في النظامين الإقليمي والعالمي وفق شروط تضمن عدم تحولها إلى مصدر للتهديد، وتضمن أيضاً عدم تصديرها للتكنولوجيات النووية والصاروخية إلى الخارج. وهو الأمر الذي سيتطلب إعادة النظر في أدوات إدارة هذا الصراع. لكن مع منطقية هذا السيناريو في ظل التعقيدات الكثيرة التي تواجه إدارة «المعضلة الكورية»، لا توجد حتى الآن مؤشرات مهمة على قبول القوى الإقليمية، فضلاً عن الولاياتالمتحدة، بالاستعداد للانتقال إليه. * كاتب مصري