أليس من المتناقضات، التي تتعارض مع البديهيات المألوفة، القول بأن مصدر الانخفاض النسبي في دخل الفلاح الأميركي، والكندي، والأسترالي، والأوروبي الغربي بصورة عامة هو ارتفاع كفاءته الإنتاجية؟ وهل يستقيم هذا القول مع المنطق، إذا أدركنا أن الاقتصاديين المهنيين مقتنعون اقتناعاً تاماً بأن مصدر الانخفاض المطلق لدخل الفلاح السنغالي، والإندونيسي، والسوداني، والمصري والهندي، وبقية نظرائه في الدول الزراعية الفقيرة، هو تدني كفاءته الإنتاجية؟ كيف يكون تسامي إنتاجية فلاح الدول الغنية المتقدمة نقمة عليه، وفي الوقت نفسه نعمة، يتمنى أن يظفر بها كل فلاح من فلاحي الدول الفقيرة المتخلفة؟ إن الذي يحكم دخل الإنسان «المنتج» هو كمية ما ينتجه، وثمن كل وحدة من وحدات هذا الإنتاج. ومصدر فقر فلاح الدول المتخلفة تقنياً، هو بالدرجة الأولى ضآلة إنتاجه، ثم الإعانات التي تدفعها الحكومات لأكثرية المواد الزراعية المستوردة للتخفيف من عبء المعيشة على الجميع. أما في الدول المتقدمة تقنياً، فإن أهم أسباب تخلّف دخل الفلاح، عن بقية العاملين في القطاعات الاقتصادية الأخرى، هو أن النسبة التي ترتفع بها أثمان محاصيله، في المتوسط، أقل بكثير من النسبة التي ترتفع بها أثمان بقية ما ينتجه المجتمع من سلع وخدمات. ولماذا؟ بإيجاز شديد، لأن ارتفاع إنتاجية الفلاح في هذه البلدان، أدى إلى زيادة مجموع ما يعرض في الأسواق من محاصيل زراعية بنسبة أكبر من النسبة التي يرتفع بها الطلب على هذه المحاصيل. وكلما زاد العرض عن الطلب انخفضت الأسعار إذا لم تكن التوقعات في المستقبل القريب لا تنبئ لا بخفض العرض ولا بزيادة الطلب. ومع أن تصاعد كفاءة الفلاح الإنتاجية، هو أهم أسباب تجاوز النسبة التي زاد بها العرض على الطلب، فإن ارتفاع مستوى معيشة الناس في البلدان الغنية، ساعد أيضاً على عدم مواكبة المطلوب للمعروض في أسواق المحاصيل الزراعية. وتفسير ذلك أن الناس إذا تخطت دخولهم مستوى معيناً، فإن النسبة التي يستقطعونها من دخولهم لينفقوها على مشترياتهم من المواد الغذائية، تتضاءل بدلاً من أن تزيد بالنسبة نفسها التي زادت بها الدخول. وهذا طبيعي، متى أدركنا أن ما يستهلكه الناس من مواد غذائية، متقارب في الكم والنوع إذا تجاوزت دخول غالبيتهم مستوى معيناً، حتى وإن اختلفت مقاديرها فوق هذا المستوى. ولو أخذنا مثلاً الفلاح المصري فإن مصدر مأساته بالدرجة الأهم هو الإصلاح الزراعي. ومع أن دوافع مشروع الإصلاح الزراعي الذي اتخذته حكومة جمال عبدالناصر كانت نبيلة، لتمكين العمال الزراعيين من امتلاك قطعٍ صغيرة من الأراضي يحرثونها بدلاً من أن يكونوا أجيرين عند ملاك كبار «إقطاعيين»، فإن نتيجة هذا الإصلاح كانت تقسيم الأراضي الزراعية الخصبة إلى قطعٍ بلغت من الصغر ما جعلها غير مناسبة لاستخدام أدوات الزراعة الحديثة المكلفة لا من حيث دخل الفلاح الفرد ولا من حيث سعة المساحة المزروعة. والمشكلة الأخرى التي واجهها الفلاح المصري هي دفع الحكومة المصرية للإعانات للتقليل من تكاليف المواد الغذائية المستوردة. ولذلك لم ترتفع أسعار محاصيل الفلاح المصري إلى المستوى الذي كانت ستصل إليه في غياب الإعانات لخفض أسعار المواد الغذائية المستوردة حتى تعذّرت على الفلاح المصري المنافسة العادلة. أما مشكلة الفلاح الهندي فليست أي إصلاح زراعي، وإنما الإعانات التي تدفعها الحكومة الهندية بدافع خفض أسعار المواد الزراعية. غير أنه وكما أتى ذكره بالنسبة إلى الفلاح المصري، فإن دفع الإعانات التي كان الغرض منها خفض أسعار المواد الزراعية المستوردة، أدى إلى منع أسعار المواد الزراعية التي ينتجها الفلاحون الهنود من الوصول إلى المستوى الأعلى الذي كانت ستصل إليه لولا دفع الإعانات للمواد الزراعية المستوردة. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي