هرع يوم الأحد قبل الماضي ما يقرب من 50 مليون ناخب تركي للاستفتاء على تعديلات دستورية اقترحها حزب العدالة والتنمية، بزعامة الرئيس رجب طيب أردغان. بأغلبية ضئيلة تقل عن 3% جرت الموافقة على تلك التعديلات بفارق مليون صوت، مع عزوف ما يقرب من عشرة ملايين ناخب عن الإدلاء بأصواتهم. هذه التعديلات الدستورية قلبت النظام السياسي في تركيا، منذ إعلان الجمهورية وسقوط الخلافة، رأساً على عقب، كونها عودة لنظام السلطنة، وانتكاسة لتسعة عقود من الحكم العلماني الليبرالي الجمهوري. هذا النظام الرئاسي الذي أُقر في تركيا بذلك الاستفتاء، ليس بدعاً بين الأنظمة الديموقراطية الليبرالية.. ولا يعدو خروجاً عن صيغة الفصل بين السلطات. النظام الرئاسي، هو في حقيقة الأمر، نموذج ديموقراطي موازٍ للنظام البرلماني التقليدي، بل قد يمتاز عن الأخير بأن حدود السلطات فيه أكثر تبايناً وحدة. كما أن النظام الرئاسي يُعد أكثر استقراراً وتوقعاً وشفافيةً في سلوك مؤسساته واستشرافاً لمصير النخبة الحاكمة، في بقائها على قمة السلطة من عدمه. وإن كان النظام الرئاسي يساوي بين قوة السلطتين التشريعية والتنفيذية، عكس ما هو الحال في النظام البرلماني الذي يجعل من السلطة التنفيذية تابعاً للسلطة التشريعية... بل إنه من الناحية العملية والسياسية، تتفوق السلطة التنفيذية، حتى في مجال سن القوانين وإقرارها، لدرجة أنه في الدستور التركي الجديد لا يستطيع البرلمان تجاوز سلطة الرئيس التنفيذية بالحكم بمراسيم، إلا في حالة رد الفعل، بإصدار قوانين تتناول نفس المواضيع، وهذا فيه شيء من الصعوبة، خاصةً إذا كان حزب الرئيس يتمتع بأغلبية.. أو يستطيع أن يكون ائتلافاً يتفوق على ما قد يتطور من تمتع المعارضة بالأغلبية في المجلس التشريعي. كذلك فإن قوة الرئيس السياسية في الدستور التركي الجديد لا تتساوى فقط من الناحية الدستورية مع سلطة البرلمان، نظراً أن الرئيس أيضاً ينتخب مباشرةً من الشعب، فحسب... بل إن الرئيس أيضاً يتفوق على السلطة الرقابية للبرلمان، خاصةً، إذا ما تعلق الأمر بمحاسبة الرئيس لمخالفات ارتكبها يحاسب عليها القانون والدستور، هو أو حكومته. في هذه الحالة يحتاج الأمر لثلاثة أخماس مقاعد البرلمان، مما يصعب الحصول عليه، أيضاً، في حالة تمتع حزب الرئيس بأغلبية مطلقة في البرلمان أو تمتعه بائتلاف حزبي يتجاوز الثلاثة أخماس وهو النِصَاب اللازم لمحاسبته هو وحكومته.. أو حتى الدعوة لانتخابات رئاسية وتشريعية جديدة. هذه السلطة التي أعطاها الدستور الجديد للبرلمان للدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، لا يُعمل بها في النظام الرئاسي الأمريكي، ولا حتى النظام شبه الرئاسي الفرنسي، وهذا مما يقلل من فرص استقرار النظام الرئاسي التركي الجديد. ربما جاء هذا الوضع للتخفيف من ضغوط استقطاب التعددية العرقية الحادة في المجتمع التركي.. واستجابةً لقوى المعارضة، التي تمثلها أحزاب عارضت التعديلات الدستورية الجديدة.. وربما لتحييد أي فرصة لتحرك الجيش، الذي لا يزال يمثل الخطر الأكبر على الرئيس أردوغان وحزبه.. وكذا علينا ألا ننسى الضغوط الإقليمية، التي تواجهها تركيا من جيرانها، وقد تتدخل في الشأن التركي بدعم القوى السياسية في داخل تركيا المتضررة من صعود نجم الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، مثل الأكراد وأنصار الداعية فتح الله غولن... وكذا تيار واسع من العلمانيين، الذي أظهر الاستفتاء قوتهم في حواضر ومدن تركيا الرئيسية، مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير. ربما كانت المعارضة الملفتة للتعديلات الدستورية، وإن كانت لم تنجح في إفشال مشروع الاستفتاء، إلا أنها انتقصت كثيراً من شعبية الرئيس أردوغان حتى إنها طالت من مكانة حزب العدالة والتنمية، ليس بسبب عدم الرغبة في قيام نظام رئاسي مستقر في تركيا، بقدر ما هو الخوف من شهية أردوغان المفرطة للسلطة والخلفية الأيدلوجية لحزب العدالة والتنمية، في مجتمع عاشت أجياله الثلاثة الماضية في ظل قيم العلمانية ومؤسساتها. الخوف يتمثل في هذا الزخم التراثي (العثماني)، الذي يدفع به أردوغان وحزبه نحو العودة لجذور قومية إسلامية في مجتمع حديث، ليس بعيداً عن ثقافة الغرب الليبرالية، وليس مبتور الصلة بتحالفات عميقة إستراتيجية مع الغرب العلماني الليبرالي. ولعل هذا ما دفع أكبر ثالث حزب في تركيا (حزب الحركة القومية) تأييد التعديلات الدستورية، لعله في المستقبل عن طريقها يتمكن من المجيء للحكم وربما الانقلاب على الإسلاميين، وإن كان يتفق حزب الحركة القومية مع التوجهات القومية لحزب العدالة والتنمية، لكن من منظور أيدلوجي مختلف. تركيا، بعد التعديلات الدستورية، غير تركيا التي عرفها العالم والشعب التركي، منذ سقوط الخلافة. تركيا اليوم أقرب هي لماضيها «القريب» منها لحاضرها «البعيد» قومياً وثقافياً وأيدلوجياً. تركيا اليوم يحكمها «سلطان» برتبة رئيس جمهورية، يلقب بفخامة «الباشا» رجب أردوغان الأول! [email protected]