جاءت نتيجة التصويت على التعديلات الدستورية لمصلحة جبهة «نعم» (EVET)، كي تعلن دخول تركيا مرحلة النظام الرئاسي في لحظة دقيقة، وبما يفضي إلى تحوّل كبير في تاريخها السياسي، وإحداث قطيعة مع دستور انقلابيي 1980، وهي تشبه إلى حدّ كبير المرحلة التي خرجت فيها من حرب الاستقلال عام 1923، وشهدت الانتقال من السلطنة العثمانية إلى دولة ذات نظام جمهوري علماني بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. وإن كان الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه نجحا في الفوز بالنظام الرئاسي، إلا أن نسبة التصويت لم تكن بمستوى ما طمحوا إليه وتوقّعوه، فجاء الفوز منغصاً بعض الشيء، حيث لم تتجاوز نسبة الأتراك المصوّتين لمصلحة التعديلات الدستورية 51,5 في المئة وعلى رغم أنها كافية تماماً لحسم دخول مرحلة جديدة، إلا أن النظر في نسبة الرافضين وتركيبتهم من جبهة «لا» (HAYIR) للتعديلات الدستورية، يبعث برسائل عدة إلى الرئيس وفريقه الحاكم، لكونه يعكس انقساماً عمودياً ما بين مكونات الشعب التركي، ويحمل بصمات أقوامية ما بين الأتراك والأكراد، وأخرى مذهبية ما بين السنّة والعلويين، وذلك على حساب الانتماء السياسي، الذي يبدو أن أثره على مكونات الشعب التركي لا يزال ضعيفاً وغير حاسم، على رغم حدّة التجاذبات السياسية ومن سنوات طويلة من العلمانية التركية. وإن كانت حدة الانقسامات في المجتمع التركي ليست جديدة، وناتجة من الاستقطاب السياسي الحاصل في تركيا منذ سنوات عدة، فإن دخولها مرحلة النظام الرئاسي عبر تغيير مواد دستورها بصورة مؤسسية، أثار غباراً كثيفاً في البيت التركي المفعم بإرهاصات ودوائر صراع هوياتي وتجاذبات تاريخية ما بين الشرق والغرب، لم تتمكن علمانية الجمهورية التركية من حسمها أو تجفيف منابعها الثقافية والاجتماعية، على رغم عمليات العزل للهويات الاجتماعية عن الدساتير التي عرفتها الجمهورية التركية، خصوصاً في المراحل التي كانت فيها المؤسسة العسكرية تهيمن على مقاليد الحكم، وتكتم أنفاس الديموقراطية بانقلابات دموية، حفرت عميقاً في ذاكرة المواطن التركي. وساهم الانقسام والاستقطاب في اختصار التعديلات الدستورية بمسألة الانتقال إلى النظام الرئاسي، مع أنها أوسع من ذلك، الأمر الذي ترك ظلالاً على طبيعة التحالفات السياسية التركية المعتادة وتركيبتها. وإن كان حزب العدالة والتنمية الحاكم استند في تقديمه مشروع التعديلات الدستورية إلى التربة الاجتماعية والبيئة الثقافية التركية، ذات البعد القومي الممزوج بظلال عميقة من التديُّن، خصوصاً في الأرياف وأطراف المدن، إلا أن تحالفه مع حزب الحركة القومية أفضى إلى خسارة أصوات قسم كبير من الأقليات القومية في تركيا، خصوصاً الأكراد الذين ارتابوا من التحالف مع حزب الحركة القومية الناكر حقوقَهم. وقبيل الاستفتاء الدستوري، راهن الرئيس أردوغان وقادة حزب العدالة والتنمية الحاكم على أصوات القوميين، خصوصاً مناصري حزب الحركة القومية، إلا أن الانقسام الحاصل داخل حزب الحركة القومية، نتيجة اعتراض قسم كبير من الحزب على هيمنة رئيس الحزب دولت بهشلي، الذي لا يزال في كرسي رئاسة الحزب منذ عام 1997، أفضى إلى غلبة الذين انحازوا إلى جبهة الرافضين للتعديلات من بين أنصار ومنتسبي هذا الحزب، كما أن المعارضة التركية، وتحديداً بعض المسؤولين في حزب الحركة القومية وحزب الشعب الجمهوري ضخموا من تصريح لأحد مستشاري الرئيس أردوغان، شكري كقرة تبه، أشار فيه إلى أن «تركيا ستتحول إلى نظام الولايات في حال الموافقة على التعديلات الدستورية»، وذهب الأمر إلى حدّ تصوير المعارضة التركية بأن هناك «مشروعاً سياسياً سرياً لتحويل تركيا فيديرالية، تحت ستار النظام الرئاسي»، وأثار ذلك صخباً إعلامياً وتساؤلات حول توقيت وسبب إثارة مستشار أردوغان موضوع توسيع حكم الأقاليم، وفهم منه محاولة لكسب أصوات الأكراد، لكنه أفضى في المقابل إلى خسارة نسبة كبيرة من أصوات القوميين، سواء داخل حزب العدالة والتنمية (نحو 15 في المئة من ناخبيه)، أم في داخل حزب الحركة القومية، أم خارجهما. واللافت هو أن أربع ولايات في الجنوب الشرقي من تركيا، ذات غالبية كردية، صوتت لمصلحة التعديلات الدستورية، إضافة إلى أن الولايات الأخرى ذات الغالبية الكردية وصوتت لمصلحة رفض التعديلات كانت نسبة المؤيدين فيها معتبرة، وأعلى في بعض الولايات من الولايات التركية الأخرى التي كانت فيها نسبة الرافضين أكبر من المؤيدين، ومرد ذلك هو أن عناصر الحركة السياسية الكردية، بما فيها حزب الشعوب الديموقراطي (HDP)، وحزب المناطق الحرة، وحركة المرأة الحرة، ومجلس المجتمع الديموقراطي، وتمثّل جميعها أحزاباً ومنظمات قريبة من حزب العمال الكردستاني (PKK)، لم تتمكن من حشد غالبية الشارع الكردي وراء شعاراتها الرافضة التعديلات الدستورية، إذ لم يقتنع المواطن الكردي بحججها واعتراضاتها، المتمثلة بأن التعديلات لا تشير إلى الحقوق القومية الكردية، وأن دخول تركيا مرحلة النظام الرئاسي سيفضي إلى تنصيب أردوغان ديكتاتوراً، ما يعني أنه سيلجأ إلى زيادة العنف والتصعيد العسكري ضد المناطق الكردية. يضاف إلى ذلك أن أحداث العنف والعمليات العسكرية في المناطق ذات الغالبية الكردية أنتجت شعوراً ناقماً ضد حزب العمال الكردستاني وتصرفات مقاتليه ومناصريه، وتحميله مسؤولية ما حصل لمنطقتهم من خراب، كما أن ما قاله الرئيس أردوغان في مقابلة تلفزيونية، أجراها قبيل الاستفتاء، وعمد فيها إلى تشبيه حزب العمال الكردستاني بمنظمة «إيتا» الباسكية، وأشاد فيها بتجربة هذه المنظمة في التخلي عن السلاح، وأشار إلى إمكان الجلوس والتحاور مع هذا الحزب، شريطة أن يقوم بما قامت به المنظمة في إسبانيا، وهو أمر لاقى صدى إيجابياً بين الأوساط الكردية الشعبية والحزبية. ويشير الواقع التركي، إلى أن أكراد تركيا يمثلون كتلة انتخابية معتبرة، يمكنها أن تكون فاعلة ومؤثرة في أي استحقاق انتخابي تركي، خصوصاً في ظل الانقسام والاستقطاب في تركيا، إذ تشير التقديرات إلى أن الكتلة الانتخابية الكردية تقترب من 20 في المئة من مجمل الناخبين. غير أن من الخطأ الجسيم اعتبار أكراد تركيا كتلة متجانسة، سياسياً واجتماعياً، حيث إنهم مثل سواهم من الناس، يختلفون سياسياً واجتماعياً بخصوص مجمل القضايا التي تخص تركيا، ولا يمكن القول أن حزب العمال الكردستاني أو حزب الشعوب الديموقراطي يمثل أي منهما الأكراد أو حتى غالبيتهم، وهناك اختلاف كبير بينهم حتى بخصوص تسوية القضية الكردية. كما أن هناك جمهوراً بينهم يصوت لمصلحة حزب العدالة والتنمية الحاكم، وهناك العشائر الكردية والمحافظون الأكراد الذين يرون في الرئيس أردوغان بأنه الوحيد القادر على السير في «مسيرة السلام»، والتوصل إلى اتفاق ينهي المواجهات العسكرية، ويستندون في ذلك إلى التقدُّم الملحوظ في موقع الأكراد في الساحة السياسية التركية، وإلى تحسُّن أوضاعهم الاجتماعية والثقافية بعد أن أجرى أردوغان تعديلات دستورية وقانونية عام 2013، عزّزت حقوق الأكراد، ومكّنتهم من استخدام لغتهم في المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، إلى جانب التقدم في تطوير وتنمية مناطقهم. ويبدو أن الرئيس أردوغان التقط الإشارات الإيجابية من الجمهور الكردي، واعتبرها في أول خطاب له بعد ظهور نتائج الاستفتاء «إشارة جيدة بالنسبة للاستحقاقات الانتخابية المقبلة عام 2019».، فيما ذهب سياسيون وناشطون أكراد ومسؤولون من حزب العدالة والتّنمية الحاكم إلى اعتبارها بمثابة تطورات ستؤثر إيجاباً في مستقبل القضية الكردية. ويدرك أردوغان ومعه حزب العدالة والتنمية أهمية استمالة جمهور الأكراد، لذلك زار مدينة دياربكر، التي تعتبر مركزاً لأكراد تركيا، وخاطب أهلها واعداً بالعودة مجدّداً إلى مسيرة السلام، ومتعهداً بالحرية والتنمية والأخوّة، لكن تحقيق ذلك، مرتبط بإزالة المناخ الذي أوصل إلى مرحلة قصوى من الشحن بين الأكراد والقيادة التركية، وتحديداً بين القيادة التركية وحزب الشعوب الديموقراطي، وتخفيف سلسلة الإجراءات الاستثنائية والقمعية مثل فرض حظر التجول وإنزال الجيش إلى المدن، فضلاً عن وجود معوقات تحول دون إنجاز تسوية تاريخية للقضية الكردية، المتمثلة بضرورة وقف العمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني، وتغيير موقف القوميين الأتراك من الأكراد، وعودة الثقة بين مختلف الأطراف. وفي مطلق الأحوال، فإن إنهاء مرحلة الشحن في الشارع، يساهم في عودة الاستقرار في مرحلة النظام الرئاسي، التي يتوجب على مناصريها إثبات أنها الأفضل بالنسبة إلى تركيا، خصوصاً بالنسبة إلى تحسين ظروف عيش المواطن التركي بمختلف تكويناته وانتماءاته، والأمر مرهون بما ستقدم القيادة في هذا المجال الواسع. * كاتب سوري مقيم في تركيا