أنجز العديد من الفنانين اللبنانيين، خلال السنوات الأخيرة، أعمالاً عن الذاكرة فتحت نقاشاً حول أهمية الأرشفة واستحضار الماضي لنقده في سبيل صوغ المستقبل... من الأحداث العامة إلى القصص الإنسانية التي تحيل أيضاً إلى الذاكرة الجماعية. وكشفت هذه الأعمال فراغاً مدقعاً في لبنان، حيث لا يوجد أرشيف رسمي، ولا مبادرات للمؤسسات العامة كيما يُحفظ تاريخ الدولة أو الإنتاجات الثقافية التي نالت جوائز عالمية، أو حتى لحفظ وثائق حول حروب دمّرت البلد وناسه. أما حركة المؤسسات والجمعيات الخاصة فتبقى محدودة، ورهن الموازنة والطاقة البشرية. وفي أي بلد نزوره في العالم، أول ما نتوجّه إليه هو المتحف الرئيسي لهذا البلد، حيث نقترب من قصص ناس مرّوا من هنا وماتوا من أجل قضية ما، متحف يروي لنا بداية نشوء هذا البلد والتطورات الحديثة والمعاصرة التي مرّ بها، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو علمية. لكن هذه المبادرات بقيت، في بلد استهلاكي ينهشه الفساد، شخصية وضئيلة جداً، ككل المشاريع الحيوية المتعلقة بالإنسان والتنمية البشرية. وتقتصر على فنانين وكتّاب وسينمائيين، مثل أكرم زعتري، والياس خوري، ومارون بغدادي، وبرهان علوية وغيرهم. ومن بين هؤلاء الفنانين المعاصرين الذين جذبتهم تيمة الذاكرة الجماعية، الشاب أحمد غصين الذي صاحب الفيديو «أبي مازال شيوعياً، أسرار حميمة للجميع» (30 دقيقة) والذي عرض أخيراً في بيروت. اختار غصين (30 سنة) عرض تفاصيل علاقة حميمة بين زوج وزوجة، من جنوب لبنان، تدور أحداثها بين العامين 1979 و1989، وهي مبنية على أشرطة كاسيت، أما بطلها الأول فهو الغياب. فالزوجة أم جلال، التي تحب أبا جلال من «صميم صميم قلبها»، كما تقول، تسجّل له، على أشرطة فيديو تفاصيل حياتها اليومية، هو الذي هاجر إلى أفريقيا من أجل لقمة العيش. تبوح له باشتياقها، وتخبره عن أولاده الذين يكبرون، كما تروي له أخبار الجيران والضيعة، وصولاً إلى أحوال البلد السياسية والاقتصادية. أم جلال هي الحكواتي، أو الموثِّق الدقيق والصادق لأحوال الناس، في تلك الفترة العصيبة التي مرّ بها لبنان. فحالها حال آلاف الزوجات اللواتي تركهنّ أزواجهنّ للمشاركة في الحرب، أو للهجرة بحثاً عن قوتٍ أولاد يضطرون إلى رسم صورة مفترضة عن أب يضاف غيابه إلى تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية. تكمن أهمية ما تقوله أم جلال في أنه حقيقي، صادق ونابع من القلب. واضح وبسيط كمياه تجري رقراقة أمام عيوننا. فهي لم تكن تعلم أن الحوارات، التي تولّتها من طرف واحد، المشبّعة بالحنان والحب والغضب والقرف في آن، ستكون مادة دسمة لفيلم، هي بطلته، ومخرجه ابنها أحمد! اخترق أحمد غصين، إذاً، حميمية عائلته الحقيقية، لينقلها إلى الجمهور، طارحاً مواضيع حيوية عن حياة ماضية وحاضرة ومستقبلية في آن، منطلقاً من مفهوم غياب الأب الذي ترك جرحاً في نفسه وفي نفوس أمه وأخوته، من دون أن يقصد. لذا لا نرى الأب ولا نسمعه في الفيلم، إلا من خلال صور فوتوغرافية عائلية قديمة، أدخله غصين عليها عنوة، بجسمه الضخم مقارنة بأجسام عائلته الصغيرة. وكأن الابن يريد أن يوضح، من خلال تمرير تلك الصور في الفيلم، كيف يتخيّل الأولاد آباءهم الذين يحرمون منهم، وكيف ينحون إلى أن يصنعوا منه بطلاً ضخماً وقوياً، كما فعل هو في مخيّلته التي شطحت بصورة أبيه مقاوماً الاحتلال الإسرائيلي. هذه الجرأة في تعرية الذات ونقدها، تحسب لغصين وللفيلم. إذ حاول ترميم الذاكرة العائلية والشخصية وإعادة بنائها، ليسقطها على ذاكرة مجتمع كامل. ويحسب له أيضاً أنه وضع مسافة موضوعية بين الذكريات الشخصية المؤلمة، وبين العمل الفني الذي نجح في تحريك ذاكرة المشاهد واللعب على الزمن بتقنية مشهدية ذكية. لكن كيف تعامل غصين مع هذه المادة الحميمة، الثرية، والضخمة؟ يقول ل «الحياة» إن «اكتشاف تلك الأشرطة بحوزة أمي كان إنجازاً بالنسبة إلي. شعرت أنني بذلت جهداً كبيراً بمجرد العثور عليها والاستماع إليها». وأضاف: «كان العمل شاقاً، وتعاملت معه بخوف وحذر شديدين. فكان عليّ أن أحدّد تعاطيَّ مع المواد الأرشيفية الهائلة، والمسجلة على مدى 40 ساعة، لأختار منها 30 دقيقة، وأن أحدّد المسافة التي تفصلني عنها. فهي مادة خاصة، لكن مجرد نشرها، يعني أنها صارت ملكاً للجميع، كما أنها نموذج عن حال البلد في ثمانينات القرن الماضي، من خلال حوار أمي وأبي». ويشرح غصين، وهو ابن المسرح اللبناني الذي عمل فيه ممثلاً ومخرجاً وراقصاً ونال جوائز محلية، أن في العمل شقين: «الحوار الجاري بين امرأة أوكلت إليها مهمة تربية أربعة أولاد في خضم الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي، ورجل يراوح مكانه، من جهة. وبين نظرتي الشخصية لذلك الرجل الذي عاش بعيداً منا من جهة أخرى». أنتج الفيديو بتمويل من «بينالي الشارقة 2011»، ضمن تجهيز فني، إذ عرض في غرفة صغيرة وحميمة، تملؤها المسجلات والسمّاعات وتتوسّطها سجادة وشاشة كبيرة. ويختزن العمل، بحسب نقاد محليين، زخماً درامياً ومادة أرشيفية تجعله نواة فيلم طويل، وهذا ما يفكّر فيه غصين حالياً. وهذه ليست المرّة الأولى التي ينجح فيها غصين في تناول تيمة الذاكرة الجماعية. أخرج، في العام 2004، فيلم «عملية رقم ...» (20 دقيقة)، الحائز جائزة «مهرجان بيروت الدولي للسينما»، ويتمحور حول أربعة مقاتلين في غرفة واحدة، لا يعرفون بعضهم البعض، لكنهم ينتظرون ساعة الصفر لتنفيذ عملية عسكرية في جنوب لبنان. وبعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006، أخرج «رقم قياسي خاطئ»، حيث صوّر أمه وبيت العائلة الذي هدمه القصف العشوائي. وفي 2007 أراد البحث في تاريخ الانقسام الطائفي المناطقي في لبنان، من خلال فيديو «210 متر» (10 دقائق) تناول فيه قصة شارع يفصل شرق بيروت عن غربها وشهد مجازر خلال الحرب الأهلية. وفي 2008 سافر غصين إلى الدنمارك لتصوير الفيلم الوثائقي «عربي قادم إلى المدينة»، عن الجيل الثاني من المهاجرين العرب وما يعانونه من مشكلات الهوية والاندماج. يقول غصين: «لم أصمّم يوماً على تحديد هوية أعمالي، لكنني ابن هذه الأرض التي تحمل عبء الماضي وحروبه وتغيراته، والمراجعة النقدية يجب أن تكون حاضرة دوماً. بالصدفة اكتشفت أنني أملك كنوزاً أرشيفية، فصار همّي أن أوظّفها في عملي الفني». ويضيف: «من هنا تراكمت في داخلي هواجس إعادة ترميم وبناء ذاكرة شخصية يمكن إسقاطها على المجتمع اللبناني. آمل بأن أضيء شمعة في طريق طويلة تحتاج إلى دعم رسمي لكتابة التاريخ المعاصر للبنان من خلال قصص مواطنيه».