«لأغراض ثقافية فقط»، هي العبارة التي تكتب عادة لدى موظفي الجمارك عندما ترسل طبعات من الفيلم الى خارج البلاد، ويهدف تسريع رحلة الفيلم من خلال العملية الجمركية. ولكن في اسرائيل، تلفت العبارة الموضوعة على أي شريط فلسطيني، انتباه الموظفين الى ضرورة مراقبة الشريط وإعاقة حركته الى بلدان العالم الاخرى. المخرجة البريطانية سارة وود استخدمت هذه الاشارة عنواناً لشريط وثائقي يبحث في تدمير الأرشيف السينمائي الفلسطيني بعد الاجتياج الاسرائيلي لبيروت عام 1982، وحاولت ان تملأ الفراغات من خلال ذاكرة الاشخاص وبقايا الأفلام. فيلم المخرجة وود، عرض في صالة تيت غاليري للفنون، وسيشارك في تظاهرة الأفلام القصيرة بمهرجان روتردام هذا العام. تستهل المخرجة سارة وود شريطها بالعبارة التالية: «في عصر تهيمن عليه الصورة المتحركة، كيف يمكن ان تشعر أمام حقيقة عدم وجود صورة للمكان الذي جئت منه؟». ومناسبة تلك العبارة، ضياع أرشيف السينما الفلسطينية الوطني الذي أسس عام 1976، وضم مئة شريط فلسطيني يوثق لنضال الفلسطينيين في حياتهم اليومية. تأسيس الأرشيف كان محاولة للإمساك بتنوع التجربة الفلسطينية، بدلاً من التماهي مع الانتاج الغربي في هذا المجال. لكن الأرشيف فقد عام 1982 مع الاجتياح الاسرائيلي للبنان وحصار بيروت، وبقي فقط عدد قليل من تلك الأفلام على قيد الحياة. إتصالات تقول سارة وود «في حالة عدم وجود وثائق مادية، فإن العثور على مادة فيلمية حيّة، يتوقف على الأفراد وعلى الحوار بيننا». وقد توفرت مادة فيلم «لأغراض ثقافية فقط»، بعد الكثير من البحث وسخاء الاصدقاء في المساعدة. من هؤلاء الأشخاص، آن ماري جاسر التي عرضت بعض تلك الأعمال في نيويورك، وساهمت بربط وود مع المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي (رحل صيف 2009)، وقد استخدمت مقتطفات له كان نشرها حول السينما الفلسطينية. كذلك ربطتها بالمخرجة خديجة حباشنة، التي اعطت شهادتها، ومدت المخرجة بلقطة ناجية من فيلمها «أطفال ولكن» (1980). واتصلت سارة وود بالمخرج العراقي الأصل قيس الزبيدي، الذي عمل مع مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية لسنوات طويلة، واطَّلعت على كتابته وانجازه السينمائي في هذا المجال، وقد سمح لها باستخدام مقتطف من فيلمه «بعيداً عن الوطن». من بين الافلام التي استعيدت بالذاكرة، «عائد الى حيفا» (1981) للمخرج قاسم حول، بتعليق من آن ماري جاسر، وفيلم «بكل روحي وبدمي» (1969) لمصطفى أبو علي، كما يتذكر احد السينمائيين الفرنسيين. كذلك فيلم «كفر شوبا» (1975) لسمير نمر، باستعادة من السينمائي التونسي خميس خياطي. أيضاً استعانت المخرجة بلقطات قديمة من أرشيف صور ثابتة ومتحركة لفلسطين قبل عام ثمانية واربعين، من ذلك، لقطات من شريط صوره لوي لوميير بعنوان «مغادرة القدس بالقطار» (1887). وكأن بالمخرجة تقول: كانت هناك بلاد قبل اختراع الدولة الاسرائيلية اذن»! تؤمن المخرجة سارة وود بأهمية الأرشيف، وتعتقد أننا يمكن ان نتعلم من شظايا الماضي هذه. إن التاريخ يكرر نفسه و لا يوجد شيء ثابت. إذا نظرتم الى صورة من الماضي، ستبدو للوهلة الاولى، ثابتة في الزمن. أنا أعمل لإظهار كيف إن الوقت ليس ثابتاً أبداً، فهو دائماً في حالة حركة إلى الأمام، يربط الماضي بالحاضر والمستقبل». الرسم فعل سينمائي بعيداً من سمو الهدف الذي تعمل لأجله وود، للمرء ان يفكر، كيف حلت المخرجة إشكالية تكوين فيلم عن أرشيف ضائع، اي من دون مواد خام للاستخدام، عدا الشهادات وبضع لقطات فقط. الفيلم من النوع التجريبي لا الوثائقي التقليدي، لجأت فيه المخرجة الى تقنية الرسم، لاستكمال الفراغ في الذاكرة من خلال الرسوم. وقد كلفت الفنان وودرو فينكس، ان يعكس تصوره لقصة الفيلم التي عرضتها عليه. وبعد ذلك، قررت ان تصوره وهو يرسم الفكرة بوحي من اللقطة الأرشيفية، او بوحي من شهادة الذاكرة. كذلك استعانت بالرسوم المتحركة لتروي تقسيم فلسطين ثم انكماش مساحة فلسطين شيئاً فشيئاً عبر الاحتلال الاسرائيلي للأراضي. ولم تنس ان تضع حنظلة ناجي العلي كختم على أحد المشاهد، وكأن الفيلم مهدى الى إنجازه في تسجيل يوميات شعبه. كان تصوير يد الفنان البريطاني وودرو، الذي لم يزر فلسطين في حياته، وهي ترسم السرد، ومشاهدة الجمهور الغربي لكيفية استيعاب الفنان للسرد/ الشهادة، بصرياً، اي وهو يتكون رسماً، بمثابة فعل سينمائي بحد ذاته. يستخدم الرسم هنا، اي الفعل الابداعي، مقابل هشاشة الذاكرة الانسانية. وبحلول نهاية الفيلم، يكون المشاهد قد سمع عن تلك الأفلام ولم يشاهدها، فيشعر بالإحباط من غياب الأصل، الأمر الذي يستفزه للمساهمة في سدّ تلك الثغرة، وهذا جانب محرّض ومشروع للفن. عود على بدء، وفي إشارة مرة اخرى الى عنوان الفيلم، نذكر ان المخرجة سارة وود، كانت اطلعت على مقال للمخرجة الاميركية من أصل فلسطيني آن ماري جاسر، كتبت فيه عن تجربتها في تنسيق مهرجان للسينما الفلسطينية في نيويورك. في المقالة، تحدثت عن الجوانب العملية للتنسيق، والصعوبات المادية التي وقفت أمام الحصول على الافلام من جميع أنحاء العالم، للعرض في الولاياتالمتحدة. وقد لاحظت جاسر أن الأفلام المرسلة من فلسطين كانت تضيع في الإجراءات «الخطأ»، لكن تبين بعد بحث وتحقيق، أن الاشرطة التي يكتب عليها «لأغراض ثقافية فقط، وليس للاستخدام التجاري»، تدفع موظفي الجمارك في اسرائيل الى الاطلاع على محتوى الفيلم ومنعه من الانتقال خارج البلاد. وفي استخدام تلك العبارة عنواناً لشريطها، تتحدى المخرجة البريطانية سارة وود، الرقابة الاسرائيلية، رمزياً، بل تسخر منها، في محاولتها استرجاع شظايا الذاكرة والمفقود من الأفلام الفلسطينية عن تاريخ هذا الشعب. من هنا، فقد استخدمت ورق الجمارك الاسرائيلي مدخلاً لعناوين الفيلم، لتؤكد على رسالتها لتلك السلطات، ولتثبت لها ان الزمن دوماً في حالة حركة الى الأمام، ولا يثبت عند الماضي.