حضرت الأفلام الوثائقية اللبنانية بقوة في مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته الثامنة، فمن بين 15 فيلماً وثائقياً تشارك في المسابقة الرسمية للمهر الوثائقي العربي تقدم أربعة أعمال لمخرجين شباب ينجزون تجربتهم الأولى، أو الثانية، ويتذكرون. وتبدو الأفلام اللبنانية جميعها متعلقة بذاكرة جماعية مبددة شرذمتها الحروب التي خربت الأماكن أيضاً لتذهب بمخزونها من الذكريات التي تحاول الأعمال الوثائقية اللبنانية استعادة ملامح منها، أو إثارة بعض جوانبها بأساليب مختلفة. وبدا المخرجون الشباب متعطشين للوصول إلى تلك الذاكرة التي منعت عنهم، أو سلبت منهم، خصوصاً من فترة ما قبل الحرب، مع أن هذه الذاكرة الجماعية يتكون جزء كبير منها خلال الحرب بما حملته من تفاصيل أحداث غير عادية تكاد لا تحصى. بدا المخرجون راغبين بالحديث عن الشخصية الجماعية اللبنانية برغباتها وميولها الجماعية، أو ما ترفضه جماعياً أيضاً عبر أعمال تعيد تركيب جغرافية المكان المنكوب وسيكولوجية إنسانه. عبر فيلمه “حوض رقم 5′′ يتناول المخرج سيمون الهبر، الآتي أساساً من عالم المونتاج، من خلال مجموعة مختارة من سائقي الشاحنات، حكايات مرفأ بيروت، وما شهده من تحولات من أيام الفرنسيين إلى اليوم. ويصور الفيلم علاقة هذه الشريحة من المواطنين بالمدينة التي تحولت خرائطها، وبالأمكنة التي ما عادت موجودة، ولا عادوا يرتادون غيرها، بل يبقون في المرفأ أسرى لتبدل الزمن وللهم المعيشي. المشهد في الفيلم يظهر مجموعة السائقين في المرفأ، وكأنهم عالقين في المكان لا يجدون منه مخرجاً، وكأنهم تلك البقرات المستودرة التي تحاول الخروج من السفينة إلى سيارة النقل، لكنها ترتطم بالحائط، ولا تستطيع الخروج. وبينما يبقى سائقو الشاحنات أسرى المكان وحكايات ماضيهم، أيام لم تكن منطقة البرج تنام، وأيام كانوا يذهبون إلى صالات السينما، وكذلك أسرى حكاياتهم عن الماضي، يختار “نجم” أبو المخرج، مصيراً مختلفاً، يبيع شاحنته، ويشتري سيارة أجرة يعمل عليها، لكنه هو أيضاً يحكي حكاياته. وتمضي المشاهد في الفيلم إلى محاور أخرى، لتعبر بقضايا مثل النزوح من الريف إلى المدينة، حيث تتركب منظومة علاقات بين الأوساط الشعبية والفلاحية المهاجرة وسكانها التجار وأصحاب المحال وقدرة بيروت على استيعاب الجميع في النهاية. ولا يعتمد المخرج أرشيفاً عن منطقة المرفأ، ولا الشخصيات التي يحاورها، لكنه يعتمد بعض صور الوالد الذي يتحدث عن ماضيه وزواجه، ويقارن نفسه في وقفته بالراحل رفيق الحريري. وكان سيمون الهبر برز في ساحة الفيلم الوثائقي مع عمله الأول “سمعان بالضيعة”، الذي حاز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان دبي العام 2008، وجال بعدها على حوالى ثلاثين مهرجاناً دولياً، وحقق نجاحاً. وفي منطقة قريبة من المرفأ في بيروت، صور نديم مشلاوي، بالتعاون مع طلال خوري، كمدير للتصوير “القطاع صفر”، الذي يتناول تاريخ منطقة الكرنتينا في بيروت، ويعيد تصويرها بشكل تفصيلي عبر معاينة بصرية جميلة تلتقط الأمكنة بحساسية، وتفرض فوق صورتها المهجورة والموسيقى التي صنعت لها، كلاماً لمثقفين وباحثين يعودون إلى ذاكرة المكان. استكشاف المكان في نوع من قصيدة بصرية يتحول إلى نوع من استكشاف لزوايا مظلمة في ذاكرة لبنان الجماعية التي تساقطت أشلاء، وتناثرت وذهب سكانها الأصليون الذين تكونوا أساساً من الأرمن بعد مجازر الأرمن في تركيا، والفلسطينيين بعد 1948، واللبنانيين الفقراء، ثم السوريين. وفي “القطاع صفر”، حيث يتوازى التحليل النفسي والثقافي للمكان والمجتمع صوتاً، تتحول منطقة “المسلخ” المهجورة راهناً إلى مرادف للوطن، ومثله مستشفى الكرنتينا التي كان يحجر فيها على العائدين أثناء حقبات الأوبئة في التاريخ. ويتوازى في الشريط خطا الصوت والصورة، ليكونا عالماً من الاستعارات الناشبة بين المكان والإنسان والوطن، بكل ما فيه من خواء وخراب، رغم الأمل بإعادة الإعمار. و”القطاع صفر” هو أول فيلم لنديم مشلاوي، مؤلف موسيقى الأفلام، ومصمم صوت عمل سابقاً مع المخرجين محمد سويد، وجورج هاشم، وأكرم زعتري. أما هادي زكاك في شريطه الجديد “مرسيدس”، فينحو منحى آخر في التعاطي مع الذاكرة اللبنانية، بالانفتاح على السخرية، والتجريب، ويستعير تقنيات السينما الصامتة للحديث عن حب اللبناني الشائع للسيارات من نوع المرسيدس، رابطاً بين تطور أنواع السيارة، وتطورات لبنان السياسية خلال 60 عاماً. وإذا كان اللبناني تبنى هذه السيارة إلى درجة باتت تشكل جزءاً من هويته، فإن مخرج الفيلم صور سيارات الأجرة من نوع مرسيدس، بدءاً من تلك التي “تعرف بالمدعبلة”، وصولاً إلى تلك التي تعرف بالشبح، والتي بحسب الفيلم فازت بأكثرية مقاعد البرلمان اللبناني. وفي شريط رابع مختلف، وأكثر خصوصية، لكن لا يبتعد عن الذاكرة الجماعية، يصور رامي نيحاوي في “يامو” موضوعاً يخص العائلة، لكن من زاوية الزواج المختلط الذي يظل حساساً في لبنان، ويشكل إذا ما تحقق مصدراً لكثير من المشكلات بشكل قد ينعكس على حياة أجيال بأكملها. ويقدم رامي نيحاوي، الذي هو ممثل أصلاً، المشكلة القائمة على مستوى البيت والعائلة، حيث يرحل الأب، وتبقى الأم، المرأة الشيوعية، لتمارس صمتها حول ماضيها، قبل أن تتنازل عنه في الفيلم الذي هو أول تجربة للمخرج أنتجته مونيكا بورغمان، صاحبة مشروع “الهنغار” وأنشطته الثقافية في بيروت. وعلى إيقاع ما تفضي به تلك الأم “نوال” يتشكل الفيلم الذي يأتي ليعبر عن آلاف الحالات من الزواج المختلط في بلد لا يعترف إلا بالطائفة، وتتحول قصة العائلة إلى قصة وطن، بل قضية وطن لا يهتم أحد بمعالجتها. وتأتي هذه الأفلام الأربعة لتستعيد ذاكرة، لكن أيضاً لتقيم في الحاضر ماضيا لم ينته ولم يتبدد، صنعها مخرجون شباب أتوا هذه المرة مصحوبين بمنتجين بات يهمهم الشأن الوثائقي، بعدما ساهم برنامج “إنجاز” في دبي في دعم جزئي لإنتاج هذه الأفلام، وهو ما باتت تعتمده معظم المهرجانات العربية في غياب الدعم الرسمي، ومن وزارات الثقافة.