في كلمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمناسبة قراره نقل السفارة الأميركية إلى القدس الموحدة؛ تم الاستناد إلى وقائع تاريخية تنحاز في ما يبدو إلى الجانب الإسرائيلي. لكن الغريب أن عدداً غير قليل من اليهود يعارض تلك الرواية. فعلى هامش مشاركته في مؤتمر عقده الأزهر الشريف في القاهرة أخيراً لمناصرة القدس؛ أصدر وفد لجماعة «ناطوري كارتا» بياناً أكد مجدداً معارضتهم قرار ترامب ومعاداتهم الصهيونية. وإذا كان هذا موقف الجماعة التي لها أنصار منتشرون في بلدان العالم إضافة إلى القدس، فإن يهوداً آخرين في العالم يرفضون كذلك القرار. فما هي حيثيات هذا الموقف؟ وما هي أدلة رفض يهود قرار ترامب أو وعده المشؤوم؟ من قلب القاهرة أصدرت «ناطوري كارتا» بزعامة الحاخام يسرائيل مائير هيرش بياناً حرصت فيه على تأكيد أنه: «منذ تدمير الهيكل اليهودي قبل 2000 عام كان اليهود في المنفى بمرسوم ديني يحظر عليهم إقامة دولة ذات سيادة، أو شن حرب ضد أي أمة، وإن احتلال فلسطين، وقتل شعبها وطرده، وقمع أولئك المتبقين، تشكّل انتهاكاً تاماً للدين اليهودي وللقيم اليهودية التقليدية». وما جاء في البيان يتماشى تماماً مع معتقدات أتباع «ناطوري كارتا» الذين وضعوا خلال المؤتمر على أعناقهم أعلام فلسطين والكوفية الفلسطينية التقليدية، لأن زعيم الجماعة الراحل والذي سلّم الراية لابنه من بعده موشيه هيرش كان وزيراً للشؤون اليهودية في السلطة الفلسطينية. أنصار تلك الجماعة وغيرها من الجماعات الأرثوذكسية المعادية للصهيونية يتم قمعهم بالضرب والاعتقال من قبل «النظام الصهيوني»، وفق وصف «ناطوري كارتا» الحكومات الإسرائيلية؛ وكان أحدثها اعتقال هيرش الابن في مطار بن غوريون. ويتماشى موقف «ناطوري كارتا» مع حقيقة أن بني إسرائيل خالفوا عهدهم مع الرب بعبادة الأوثان في سيناء، ثم بعبادة الأوثان مرة ثانية في دان وبيت إيل في القرن الذي كانت فيه القدس تحت سيطرتهم السياسية لبعض الوقت (القرن السابع قبل الميلاد)، حيث غادر عشرة أسباط القدس طوعاً خشية دفع ضرائب جديدة. وانقسمت الإمارة اليهودية (المملكة) إلى إمارتين سرعان ما تم تدميرهما على التوالي. كما تتسق مواقفهم المعلنة في مؤتمر الأزهر مع ما أبدوه خلال مشاركتهم قبله بأيام في مؤتمر إسلامي موسع في كندا. وكان الصهاينة قدّموا ترضيات لقطاع من رافضي الصهيونية قبيل وصول لجنة الأونيسكوب (لجنة الأممالمتحدة لدراسة تقسيم فلسطين) تمثّلت في اتفاق الإستاتوس كو (اتفاق الوضع الراهن) الذي تعهد فيه العلمانيون بمنح سلطات دينية احتكارية للمتدينين على قضايا الزواج والطلاق والطعام الحلال وفقاً للشريعة اليهودية، إضافة لاحترام المواصلات العامة لحرمة التنقل يوم السبت وإنشاء مدارس دينية. وسبق ذلك إعادة صياغة وعد بلفور في شكله النهائي بحيث يضمن حقوق اليهود غير الراغبين في الهجرة إلى فلسطين، وكذلك حقوق الطوائف غير اليهودية في فلسطين، وهو ما لم يستغله العرب حتى الآن في الوعد، إذ يرى كاتب هذه السطور أنه لا يزال في الإمكان تركيز الجهد على تطبيق وعد بلفور بإنصاف وجبر الأضرار الناجمة عن عدم تفعيل البند الخاص بحقوق غير اليهود في فلسطين. يشار في هذا الصدد إلى أنه في منتصف العام 1947 طالب الحاخام الأكبر يوسف تسفيدوشينسكي؛ لجنة الأممالمتحدة للتقسيم ب «عدم إقامة دولة يهودية في أي جزء من فلسطين». مع الذكرى السنوية الأولى لتنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، تبدو التصريحات والمواقف متخبطة وعند تفسير التخبط في صياغة قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وعدم ذكر هل ستنقل إلى القدسالشرقيةالمحتلة (وفقاً لقرارات الأممالمتحدة) أم إلى الغربية، ومتى، يمكن الاعتبار أن يهود الولاياتالمتحدة (نحو 6 ملايين) وهم أكبر تجمع لليهود مقارنة بإسرائيل (5 ملايين تقريباً) ابتعدوا كثيراً مِن مواقف الحكومة اليمينية برئاسة بنيامين نتانياهو. وإذا كانت الصهيونية تقوم على الأشواق للعودة إلى جبل صهيون (وهي رابية من روابي القدس) فإنهم كغيرهم من يهود العالم (نحو 14 مليوناً) لم يعودوا إلى القدس، على رغم أنه لا يمنعهم أي شيء من الهجرة إلى إسرائيل. والمستجد في هذا السياق هو أن الجالية اليهودية في الولاياتالمتحدة باتت أقرب إلى «ناطوري كارتا»؛ نظراً إلى سياسات نتانياهو المنحازة إلى المستوطنين، حيث باتت قطاعات كبيرة من الجاليات اليهودية ترفض التبرع لإسرائيل وترفض أن يصفها البعض بأنها صهيونية؛ وأقرّت بأن إسرائيل صارت عبئاً لا يمكن احتماله وفق تقارير ميدانية نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» في منتصف العام الماضي ونهايته. وإذا كان أعداء أعدائي أصدقائي، فيجب دعم التيار الذي تمثله «ناطوري كارتا». * أكاديمي مصري