إثر المصالحة الفلسطينية بين «حماس» و«فتح»، برزت معضلة أمام إدارة باراك أوباما. ولا ترمي المصالحة هذه – إذا ثبت مع مرور الوقت أنها مصالحة فعلاً وليست وحدة هشّة ومتداعية - الى تحريك عجلة عملية السلام، بل الى التكيف مع ضغوط تتعرض لها «حماس» ويتعرض لها محمود عباس نتيجة «الربيع العربي». وقد تخسر «حماس» قاعدتها العملانية في دمشق نتيجة حوادث سورية. فالحركة لا يسعها إدانة القمع، ولا الثناء عليه. والوقوف موقف المتفرج يسيء الى سمعتها وصدقيتها في المنطقة. واليوم، صارت سورية عبئاً على «حماس»، ولم تعد ورقة رابحة كما كانت الى وقت قريب. وقادة «حماس» مضطرون الى احتساب رأي المصريين المسيطرين على معبر رفح. وإذا أقدمت القاهرة على فتح المعبر نزولاً عند طلب الرأي العالم المصري، حصدت «حماس» المكاسب. ومثل هذه الخطوة ترفع الحصار عن 1.5 مليون فلسطيني، وتخفف القيود عن حركتهم. ولا يغفل عباس أن فكرة الوحدة الفلسطينية تلقى استحسان الفلسطينيين. وفي الضفة وغزة، لا ينظر الناس بعين الرضا الى ظروف حياتهم الصعبة. فعباس أخلّ بوعوده الاقتصادية، ولم يساهم في طي الاحتلال الإسرائيلي. واعتبرت كل من حركة «حماس» وحركة «فتح» ببعض دروس الربيع العربي في تونس ومصر. فتوحيد صفوفهما يرمي الى استباق الغضب الشعبي ولجوء الناس الى الشارع. لذا، أبرمت المصالحة اليوم وليس قبل عام. وتساهم المصالحة في تعقيد عملية السلام، وتقوض هامش تنازلات إسرائيل. والإدارة الأميركية التزمت بناء دولة فلسطينية في الضفة الغربية ومساعدة الفلسطينيين «الأخيار». ولكن هؤلاء تحالفوا مع «الطالحين» الذين يرفضون الاعتراف بإسرائيل ويرتبطون ارتباطاً وثيقاً بسورية وإيران. والوضع المعقد هذا يفترض معالجة دقيقة. والكونغرس الأميركي يبحث في قيود سياسية وقضائية على المساعدات الأميركية للفلسطينيين، وقيمتها مئات ملايين الدولارات. وقد يحرم الفلسطينيون من المساعدة الأميركية. ويواجه أوباما معضلة لا يستخف بها كل مرة تطلق فيها «حماس» تصريحات نارية أو صواريخ على إسرائيل، شأنه شأن عباس. فإلقاء تبعة أمر ما على طرف نتيجة علاقته بالطرف المدان شائعٌ في المنطقة هذه من العالم. ولسان حال منطق اللوم هذا إذا كان أوباما يؤيد عباس، وهذا يؤيد «حماس»، جازت مساءلته عن موقفه من «حماس» وأعمالها. وإذا تبين أن المصالحة هي خطوة على طريق تحول «حماس» منظمة سياسية تلتزم شروط الرباعية (الولاياتالمتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا والأمم المتحدة)، تبلورت استراتيجية سياسية واعدة. وفرص مثل التحول هذا ضئيلة. والمصالحة الفلسطينية هي في مثابة هدية الى نتانياهو. فهي تقيّد قدرة الأطراف الدولية كلها، ومنها رئيس الولاياتالمتحدة، على مطالبة نتانياهو بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، في وقت تحالف عباس مع منظمة ترفض وجود إسرائيل. والوضع هذا دقيق، وليس تربة غنية لمفاوضات سلام. وساهمت المصالحة الفلسطينية في تخفيف الأعباء عن كاهل أوباما في خطابه أمام الكونغرس المقبل. فهي أظهرت أن الفلسطينيين لا يعولون على ما سيقدمه أوباما لهم. وموقفهم في محله نتيجة ضيق يد حالنا. فالأميركيون لا يسعهم إنقاذ الفلسطينيين. وثمة مناقشات دائرة في أوساط الإدارة الأميركية بين فريقين الأول يطالب أوباما بتخصيص جزء كبير من خطابه للمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، والثاني يرى أن دعم الفلسطينيين بعد المصالحة مع طرف يعارض السلام قد ينقلب على الرئيس الأميركي. والانقسام هذا هو بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية من جهة، وبين أوساط البيت الأبيض نفسه، من جهة أخرى. وفي نهاية المطاف، يعود الأمر إلى الرئيس. وفي القضية الإسرائيلية – العربية، أوباما هو الفيصل الأفضل والأسوأ. ففي الأشهر العشرين الأخيرة، ارتكب أوباما أخطاء قاتلة. فسياسته تفتقر إلى استراتيجية. ورأى جورج شولتز، وهو أول وزير خارجية عملت معه بين 1982 و1988، أن الرئيس يُطالَب بخطاب في ظل غياب استراتيجية واضحة. ونحن في هذه المرحلة. ويرجح أن تأتي حصة النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني صغيرة في خطاب أوباما. وهذا يتناول الوضع في المنطقة والتغيرات الطارئة عليها في انتظار انتهاج استراتيجية تتصدى للأوضاع المختلفة في المنطقة. وعقيدة القوى العظمى هي في غنى عن التماسك. ويسعها الإقدام على خطوات غير متناسقة ومنافقة. وأوباما لم يصُغْ عقيدة. والعقيدة الأميركية الحقة والفعلية هي تلك التي انتهجت أثر الحرب العالمية الباردة يوم أعلن هاري ترومان عقيدة حملت اسمه، وأطلق خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا. والعقيدة هذه كانت مرآة نفوذ الولاياتالمتحدة السياسي والاقتصادي. ولا تحتاج أميركا اليوم الى عقيدة تغلِّب منطق التماسك السياسي على الوقائع. والتحدي السوري مختلف عن التحدي الليبي. وحبذا لو سحب أوباما السفير الأميركي من دمشق، على رغم أن الخطوة هذه لن تؤثر في سير الأمور. ولا تملك واشنطن خيارات كثيرة في سورية. وهي تواجه صعوبات كثيرة تحول دون تحالف دولي يناوئ النظام السوري. فبكين وموسكو تعارضان إصدار مجلس الأمن قراراً يدين سورية. ولا يسع أميركا شن حملة عسكرية على بلد مثل سورية علاقاته وثيقة بقوى وازنة في المجتمع الدولي ويمتلك دفاعات جوية لا يستخف بها. ولا تستطيع أميركا الاحتجاج احتجاجاً قوياً وتصعيد نبرتها في وقت هي مكبلة الأيدي وهامش الفعل ضيق. ويواجه الأميركيون مشكلات كبيرة مترتبة على الفرق بين مواقفهم وبين هامش عملهم أو خياراتهم العملية. والفرق بين خطاب الإدارة الأميركية وبين قدرتها على بلوغ هدفها شاسع. ويساهم التباين هذا في تقويض صدقيتها. وأبرز العثور على أسامة بن لادن قدرة الإدارة الأميركية على الإنجاز. والنجاح في بلوغ الأهداف هو مصدر النفوذ والسلطة. وفي الشرق الأوسط، ضعف نفوذ الولاياتالمتحدة نتيجة فشلها في بلوغ أهدافها وإحراز النصر. وصدقية أميركا في الشارع العربي اهتزت. ولم نعد موضع إعجاب وخشية واحترام على قدر يليق بنا. وفي وسع باراك أوباما توسل عملية السلام لكسب العقول والقلوب. ولكن معظم السياسات الأميركية، منها سياسة عزل إيران ومكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية، غير شعبية، ولا تلقى تأييد الشعوب العربية. ويصف العرب السياسات الأميركية بالنفاق. فأميركا أيّدت الانتخابات في فلسطين، في 2006. ولكن النتائج لم تعجبها. وهي تواجه معضلة احتمال فوز الإخوان المسلمين ب 30 في المئة من المقاعد في الانتخابات البرلمانية المصرية المقبلة. وهي أمام معضلة مفاوضة الحركة هذه أم الامتناع نتيجة التحفظ على شرعتها ومواقفها. وعارضت واشنطن زعزعة استقرار بعض أنظمة المنطقة، على رغم سياساتها الاستبدادية. ولا ينظر العرب بعين الرضا الى سياستنا في غزة، وإلى علاقاتنا المميزة بإسرائيل، ومحاصرة «حماس»... ويساهم «الربيع العربي» في تضييق هامش مناورة السياسة الأميركية في المنطقة. فمع طي الأنظمة الديكتاتورية، تميل كفة التاريخ وسيرورته الى احترام حقوق الإنسان والحوكمة العادلة. ولكن، في الأمد القصير، نواجه مشكلات عسيرة نتيجة العجز عن مواكبة التغيرات هذه. ولن يسعنا تغيير سياستنا وتلبية تطلعات المنطقة. وهاجس رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، الأبرز هو إيران. فلحظة ترتقي ليبيا وسورية الى مرتبة الدول المارقة المنبوذة ويضيق خناق العزلة عليهما، تصبح إيران ثانوية في سلم أولويات واشنطن. فعدد الدول المنبوذة التي يسعنا التصدي لها في وقت واحد محدود. والإيرانيون حازوا هامش مناورة، إثر ارتفاع أسعار النفط وتواصل عمل المفاعلات النووية، وتراجع الاهتمام الدولي بالملف الإيراني. ويبعث على القلق في اسرائيل احتمال اعتراف مجلس الأمن بالدولة الفلسطينية. وتطالب الدولة العبرية واشنطن بالانحياز إليها والوقوف الى جانبها. وفي وسع الرئيس الأميركي طمأنة إسرائيل إلى مساندته لها، وتنبيهها إلى مخاطر السيناريو هذا. وحرّي بأوباما أن يقنع المسؤولين الإسرائيليين بأن التعاون للحؤول دون بلوغ المشروع هذا مجلس الأمن حكيم ومفيد. ونجاح المسعى هذا هو رهن إقدام الحكومة الإسرائيلية على تنازلات. ويطالب رئيس السلطة الفلسطينية بتجميد بناء المستوطنات قبل المفاوضات. وهذا ما يرفضه الإسرائيليون. وحري بأوباما مطالبة إسرائيل بالعودة الى حدود 1967 مع تبادل الأراضي، ومباشرة سيرورة سياسية تعزز سلطات محمود عباس السياسية والأمنية. وحظوظ المطلب الأخير هذا ضعيفة نتيجة المصالحة الفلسطينية، وهي تقضي بتعاون أمني بين «حماس» و«فتح». والحق أن خطاب أوباما لن يغير واقع الأمور، ولو أرسى الفلسطينيون المؤسسات، وهذا ما فعلوه، ولو اعترفت دول العالم بحق دولتهم في الحياة. فالارتقاء دولةً فعليةً من دولة افتراضية عسير، والسبيل اليه طويل. وتبلغ الدولة هذه من طريق الحرب، أي استعادة الأرض بالقوة - وهذا مستحيل - أو من طريق المفاوضات، والحل هذا هو الأمثل، أو من طريق المجتمع الدولي. ولكن هل يبادر المجتمع هذا الى فرض عقوبات على اسرائيل اذا لم تنسحب من الضفة الغربية والقدس الشرقية؟ ونشوء دولة فلسطينية قابلة للحياة في معزل عن عملية سلام ترتضي اسرائيل المشاركة فيها مستحيل. * مختص في شؤون الشرق الأوسط، موظف سابق في وزارة الخارجية الأميركية، عن «لوموند» الفرنسية، 11/5/2011، إعداد منال نحاس